التذكير بمحبطات الأعمال
2 مشترك
منتدى قسم التقنية المدنية والمعمارية بالكلية التقنية بتبوك :: المنتدى العام :: العقائد والأحكام والمعاملات
صفحة 1 من اصل 1
التذكير بمحبطات الأعمال
تذكير الزرَّاع والعُمَّال
بجُل
محبطات الأعمال
مقدمة
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ، ومذل من أضاع أمره وعصاه ، وموفق أهل طاعته لما يحبه ويرضاه ، وأصلي وأسلم على خير عبد اجتباه ، وأفضل رسول اصطفاه ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد .
لقد كان السَّلَفُ الصالح يعملون الطاعات ويخافُونَ ألا يُتقبَّل منهم عَمَلُهُمْ فقد سألت أم المؤمنين عائشةُ - رضي الله عنها - رسول الله عن أهل هذه الآية :}وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ{ (المؤمنون:60) ، أهمُ الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ فقال : «لا يا ابنة الصِّديق ، ولكنهم الذين يُصلُّون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يُقبل منهم» (صحيح ابن ماجه) .
وعلى المسلم الذي يرجوا رحمة الله تعالى ألا يكتفي بفعل بالمأمورات وترك المحظورات بل عليه أيضاً أن يبتعد عن جميع المحبطات التي تُحبط أجر وثواب الطاعات فتجعل أعماله الصالحة هباءً منثورا ، ولا يتأتى له ذلك إلا بمعرفتها أولاً ثم اجتنابها والابتعاد عنها ثانياً ، ولا يُعفيه جهله بأنها محبطات من حبوط عمله إذا وقع في أحدها ، لقوله تعالى: }أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون{ (الحجرات: 2) ، لأن الواجب على المسلم أن يتعلم ما أمره الله به فيفعله ، وما نهاه عنه فيتركه ، وما ينقض دينه ويُبطل طاعاته فيجتبه .
وقد جمعت في هذه الرسالة "أربعةً وعشرين محبطاً" هي جُل محبطات الأعمال التي لا تُخرج صاحبها من الإسلام وإنما تُحبط أعماله الصالحة وتُضيِّع أجرها ، وقد أخذت – بتصرف - العشر محبطات الأول منها من ثلاث محاضرات للشيخ عبد الرحيم الطحان بعنوان: " محبطات الأعمال " من موقعه ، والأربع محبطات التي بعدها من محاضرات بعنوان: " محبطات الأعمال " كتبها الشيخ/ عبده الأقرع بمجلة التوحيد المصرية ، ثم أخذت العشرة الأخيرة من مصادر شتى واجتهاداً مني ، فما كان فيها من صواب فمن الله وحده ، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله منه براء ، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه ،
والله أسأل أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ، وأن ينفعني بها وإخواني المسلمين ، إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبها
أبو بكر العدوي
*************************
المبحث الأول: أقسام محبطات الأعمال
تنقسم محبطات الأعمال إلى قسمين :
القسم الأول :
ما يُحبط جميع أعمال العبد ويُبطل عبوديته لله ويُخرجه من الإسلام ، وهذا يحوي خمسة أنواع هي :
1- الكفر ، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}(الكهف: 105) ، وقال تعالى:}وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }(المائدة:5).
2- الشرك ، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65).
3- الردة ، قال تعالى: }وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }(البقرة:217).
4- النفاق الاعتقادي ، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }(محمد:9).
5- البدعة المكفرة ، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }(محمد:28).
والقسم الثاني :
ما يُحبط ثواب الطاعات فقط ولا يُخرج العبد من دائرة الإسلام ، وقد جمعت فيه (24) محبطاً ، وهي :
1- الرياء وعدم الإخلاص لرب الأرض والسماء .
2- الابتداع في الدين وعدم الإتباع لنبينا الأمين .
3- المن على المخلوق باللسان وعلى الخالق بالجنان .
4- رفع الصوت على نبينا فكيف بتقديم الآراء على حديثه وهديه .
5- ترك صلاة العصر تعمداً .
6- الوقوع في الزور والآثام في شهر رمضان ووقت الصيام.
7- الاحتيال على الحرام .
8- أكل الحرام .
9- شرب الخمر .
10- إسبال الإزار عن الكعبين للرجال في الصلاة خيلاء .
11- عقوق الوالدين .
12- قطيعة الرحم .
13- أذى الجار .
14- الذهاب للعرافين .
15- فعل عبادة مؤقتة بوقت بعد خروج وقتها .
16- فعل طاعة بارتكاب محرم .
17- الكلام بالمسجد أثناء خطبة الجمعة .
18- إمامة القوم وهم له كارهون .
19- نشوز المرأة حتى ترجع إلى طاعة زوجها.
20 - التألي على الله .
21- إرادة الدنيا بعمل الآخرة .
22- العجب بالنفس .
23- الإحداث في المدينة ، أو إيواء محدثٍ فيها .
24- الانتساب لغير الأب تعمداً .
**************************
المبحث الثاني: تفصيل تلك المحبطات
المحبط الأول: - الرياء وعدم الإخلاص لرب الأرض والسماء:
الرياء في اللغة: مشتق من الرؤية ، وهي: النظر ، يقال: رائيته ، مُراءات ، ورياء ، إذا أريتُه على خلاف ما أنا عليه. وفي الاصطلاح: أن يُظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يُحسِّنه عندهم ، أو يظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويعظم في أنفسهم.
فمن أراد وجه الله والرياء معاً فقد أشرك مع الله غيره في هذه العبادة ، أما لو عمل العبادة وليس له مقصد في فعلها أصلاً سوى مدح الناس فهذا صاحبه على خطر عظيم ، وقد قال بعض أهل العلم: إنه قد وقع في النفاق والشرك المخرج من الملة.
والرياء له صور عديدة ، منها :
1 - المراءاه بالعمل ، كمراءاة المصلي بطول الركوع والسجود.
2 - المراءاة بالقول ، كسرد الأدلة إظهاراً لغزارة العلم ، ليُقال:عالم.
3 - المراءاة بالهيئة والزي ، كإبقاء أثر السجود على الجبهة رياء.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الرياء وعِظم عقوبة فاعله ، وأنه يُبطل العمل الذي يصاحبه. ، منها:
أ- حديث محمود بن لبيد مرفوعاً :"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" ، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال: "الرياء ، يقول الله لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم جزاء؟" ،
ب- حديث محمود بن لبيد الآخر، قال: خرج النبي فقال: " أيها الناس ، إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ . قال: يقوم الرجل فيصلي فيزيِّن صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه ، فذلك شرك السرائر ".
ج- حديث أبي هريرة في خبر الذين هم أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة ، وهم: " رجل قاتل في الجهاد حتى قتل ، ليقال : جريء ، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن ليقال : عالم وقارئ ، ورجل تصدق ليقال: جواد ". (رواه مسلم) .
ولهذا ينبغي للمسلم البعد عن الرياء والحذر من الوقوع فيه ،
وهو أن لا يُخلص الإنسان في عبادته لربه جل وعلا فيكون العمل مردود ، قال ربنا المعبود في سورة الكهف :{فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}. وثبت في صحيح مسلم وسنن ابن ماجه من رواية أبي هريرة أن النبي قال: " قال الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه". وفي رواية ابن ماجه: " فهو للذي أشرك وأنا منه بريء".
فالرياء يُحبط الطاعات ويُبدِّل الحسنات إلى سيئات .
*************************
المحبط الثاني: - الابتداع في الدين وعدم الاتباع لنبينا الأمين :
ثبت (في المسند والصحيحين وأبي داود وابن ماجه وغيرهم ) من رواية أمنا عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ، وفي رواية لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في شرح الحديث: قوله: "أحدث" أي أتى بشيء جديد. "في أمرنا" أي في ديننا. "ما ليس منه" أي باعتبار الشرع . "رد" بمعنى مردود ، وهذه الكلمة مصدر ، والفعل (رد) ، والمصدر هنا بمعنى اسم المفعول (مردود) ويأتي المصدر بمعنى اسم المفعول ولذلك شواهد من اللغة ، منها كلمة (الحمل) فهي بمعنى (المحمول) كما في قوله تعالى: } وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ{(الطلاق:6) أي محمول. وفي هذا الحديث يخبر النبي - بجملة شرطية - أن من أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد ، مردود على صاحبه ، حتى إن كان أحدثه عن حسن نية فإنه لا يُقبل منه ، لأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرع. ولهذا كان من القواعد المقررة عند أهل العلم: " أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على المشروعية" ، قال سبحانه : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (الشورى:21) وهذا إنكار عليهم.
وعلى العكس من ذلك فالأصل في المعاملات والأفعال والأعيان الإباحة والحل حتى يقول دليل على المنع.
وهذا الحديث ورد في العبادات وهي التي يقصد الإنسان بها التعبُّد والتقرب إلى الله ، فنقول لمن يزعم شيئاً عبادة: هات الدليل على أن هذا عبادة ، وإلا فقولك مردود.
ويحتاج هذا الحديث إلى تحرير بالغ.
فأولاً: ينبغي معرفة هل هذا عبادة أم عادة.
فمثلاً لو أن رجلاً قال لصاحبه الذي نجا من هلكة: ما شاء الله ، هنيئاً لك. فقال له رجل: هذه بدعة. فهذا القول غير صحيح ، لأن هذا من أمور العادة وليس من أمور العبادة. وفي الشرع ما يشهد لهذا حيث جعل الناس يُهنئون كعب بن مالك بتوبة الله عليه في حديثه الطويل. وكثير من التهاني التي تحدث بين الناس لا يزعم أحد أنها بدعة إلا بدليل ، لأنها أمور عادات لا عبادات ، وكمن قابل رجلاً نجح في امتحان فقال له: مبارك. فمن يقول : هذه بدعة فهو غير محق في ذلك.
وإذا تردد الأمر بين كونه عبادة أو عادة فالأصل أنه عادة ، ولا يُنهى عنه حتى يقوم دليل على أنه عبادة.
وتوجد أشياء ابتدعها الناس في دين الله ، كإحداث أذكار معينة - بصيَّغ وعدد ووقت - وهي لم تُشرع على هذا الوجه لا في الزمن ولا العدد ، ولا الهيئة ، كمن يسبح ألف مرة ويلتزم بذلك ويجعله في الصباح مثلاً ، فهذا العمل بدعة ، مردود على صاحبه لا ثواب له.
فإن قال: كيف تنكرون أن أقول : سبحان الله ؟ فنقول : نحن لا نُنكر عليك قولك سبحان الله ، بل نُنكر عليك أن تأتي بها على هذه الصفة التي لم ترد ، أما أن تسبح آناء الليل وأطراف النهار تسبيحاً غير مقيد بزمن ، ولا عدد ، ولا هيئة فلا ننكر عليك.
وكذلك ما يحدث في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول من اجتماع الناس وإتيانهم بصيغ من الصلاة والسلام على رسول الله لم ترد عن الرسول ولا أصحابه بل هي محشوة من الغلو في رسول الله الذي حذر أمته منه ، ويأخذون في ترانيم على صفات معينة ، فكل هذا بدع مردودة.
وإذا قالوا: نحن نصلي على رسول الله لننال ثواب الصلاة عليه. فنقول لهم: تحديدها بزمان ، وعدد معيّن ، وصيغة معيَّنة قد تكون غير واردة أو منهياً عنها ، كل هذا جعلها بدعة مردودة.
واعلم أنك لن تحدث بدعة في دين الله إلا انتزع الله من قلبك من السنة ما يقابل هذه البدعة ، لأن القلب وعاء إن ملأته بالخير لم يبق فيه مكان للشر ، وإن ملأته بالشر لم يبق فيه مكان للخير ، وإذا ملأته بالسنَّة لم يبق فيه مكان للبدعة ، وإذا ملأته بالبدعة لم يبق فيه مكان للسنة. وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: تجد هؤلاء الحريصين على البدع عندهم قصور وفتور في إتباع السنن ، ولا يكادون يأتون بها على الوجه المطلوب.
ولذلك فإذا تعبد إنسان في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بعبادات من أذكار وصلوات على رسول الله وغير ذلك ، فهذه بدعة ، ونجيب على من يفعل ذلك من وجهين:
الأول: أنه لم يثبت أن رسول الله عُرج به في هذه الليلة ، وهذا يُبطل كل ما ينبني على هذا.
الوجه الثاني: لو سلمنا بذلك فهذا لا يقتضي أن نُثبت لها شيئاً من العبادات ، لأن الصحابة لم يجعلوا فيها شيئاً من هذه العبادات ، والواجب على المؤمن أن يتبع ما جاء به الشرع ، ولو اتبعنا ما كان عليه سلفنا الصالح فعلاً وتركاً صرنا أسعد مما نحن عليه اليوم.
وهذا الحديث كذلك ميزان للأعمال الظاهرة ، كما أن حديث عمر بن الخطاب في النية ميزان للأعمال الباطنة ، فحديث عائشة – رضي الله عنها - عن المتابعة ، وحديث عمر عن النية ، والعبادة لا تُقبل إلا بالإخلاص والمتابعة.
وهنا نذكر مثلاً ما يفعله الناس من التسابق (التزحلق) على الجليد ، فهذا لا يُنكر عليه ، لأن هذا من العادات لا من العبادات ، وكذلك المصارعة فيما لا ضرر فيه ، فإن اشتمل على ضرر كان حراماً ، ليس لأنه بدعة ، بل لما فيه من الضرر.
فالبدعة تكون في الأمور التعبدية ، أما أمور العادات فإن كان فيها ضرر مُنعت وإلا فالأصل فيها الحل.
وكذلك من لبس لباساً غير معهود ولم ينه الشرع عنه فلا نُنكر عليه. ولو أن رجلاً داوم على حلق رأسه كلما نبت شعره حلقه ، فهذا من الأمور العادية ، ولهذا لما رأى رسول الله غلاماً قد حلق بعض رأسه ، قال: "احلقه كله أو اتركه كله". وهذا دليل على أنه ليس من باب العبادة وإلا لأرشد النبي إلى إبقاء الشعر ، ولهذا فالراجح من أقوال أهل العلم أن إطلاق الشعر من الأمور العادية إن اعتادها الناس فعلت وإلا فلا.
ولو لبس الإنسان لباساً يُخالف العادة - ولكنه غير محرم شرعاً - فلا ينبغي ، لئلا يكون لباس شهرة ، ولباس الشهرة هو الذي يشتهر به الإنسان حتى يُقال : هذا الثوب مثل ثوب فلان ، وقد يكون بالدون وقد يكون بالأعلى ، حتى قال بعض العلماء: لو أن رجلاً فقيراً لبس ثياب الأغنياء صار في حقه ثوب شهرة ، ولو أن رجلاً غنياً لبس ثياب الفقراء صار في حقه ثوب شهرة. وإنما يلبس كل إنسان ما يناسب حاله. واليوم والحمد لله لم يعد هناك فرق كبير بين ثوب الغني والفقير.
وبناءً على ما تقدم فإنه لا يُستحب أن يقصد العمرة في ليلة السابع والعشرين من رمضان ، ومن قصد ذلك فقد أتى بشيء لا دليل عليه ، فليلة القدر وإن كان لها خاصية لكنها لا تطلب بأداء العمرة فيها بل بقيامها لقول النبي : "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه". ولم يقل : من اعتمر ، وقال : "عمرة في رمضان تعدل حجة" ، ولم يقل : عمرة في ليلة سبع وعشرين تعدل حجة.
فننصح لإخواننا الذين يريدون وجه الله أن تكون أعمالهم موافقة لشرع الله سبحانه ، لأن مجرد إخلاص النية وإرادة وجه الله لا يكفي في قبول العلم ، كما سبق بيانه. ولم أجد في سنة رسول الله ما يدل على استحباب العمرة ليلة السابع والعشرين ، بل هي كغيرها من أيام رمضان في فضل الاعتكاف لما سبق من قوله : "عمرة في رمضان".
ولا يفيد الإنسان أن يعبد الله بالعاطفة - بدون أصل شرعي يرجع إليه - لأن ذلك اتباع للهوى ، فللشرع حدود معينة مضبوطة من كل وجه حتى لا يتفرق الناس فيها شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون.
ثم إن ليلة القدر ليست مخصوصة بليلة سبع وعشرين ، فالنصوص الواردة عن رسول الله تدل أنها تتنقل في الأعوام ففي عام تكون ليلة ثلاث وعشرين ، وفي آخر ليلة خمس وعشرين ، وغيره ليلة تسع وعشرين وثمان وعشرين ، وست وعشرين.. وهكذا. ...... وقال : "التمسوها في خامسة تبقى ، في رابعة تبقى ،..." إلى آخر الحديث. وهذا يدل أنها تنتقل ولا تتعين في ليلة سبع وعشرين. ونرى كثيراً من المسلمين يجتهدون في ليلة سبع وعشرين ويتساهلون فيما عداها ، وقد تكون في غيرها فيحرمون خيرها . وينبغي للإنسان أن يجتهد في تلك الليالي كلها في الدعاء بقلب خالص وأمل في الله سبحانه ، وأن يحرص على اجتناب أكل الحرام ، لأنه من أسباب رد الدعاء ، وذلك في قوله : "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" وفي الحديث: "ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعت أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، ومشربه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له" . و(أنى( للاستفهام بمعنى الاستبعاد ، أي بعيد أن يستجيب الله له.
ولهذا فأحذر إخواني من أكل الحرام ، وهو ليس فقط كما يظن البعض أكل الخنزير ، والميتة ، وشرب الخمر بل يشمل أكل الحرام لذاته كهذه الأشياء ، وأكله لكسبه ، بأن يكون الشيء حلالاً ثم يصير حراماً كالمغصوب والمسروق.
وكذلك المرابي ومن يأكل الربا سواء بصراحة أو بتحايل ، والحيلة في ذلك أقبح من الصراحة لأنها تتضمن مفسدتين: المحرم ، والمخادعة والخيانة لله سبحانه ، وهذا لا يُخادع إلا نفسه ، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فالخلاصة: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على المشروعية ، وأن كل من أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد مردود على صاحبه ، وأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرع ، وأنه لابد من الإخلاص لله والمتابعة لرسوله . (نقلاً من منتدى سفينة النصح – باختصار).
*************************
المحبط الثالث: - المن على المخلوقات باللسان وعلى رب الأرض والسموات بالجنان:
تمن على الله بقلبك وتعجب بفعلك وكأنك تمن عليه عندما عبدته ، وتمن بعد ذلك على المخلوقات عندما تقوم بالإحسان والخيرات إليها {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين}.
انظر لهذه الصورة التي صوَّر الله بها عمل المان الذي يمن بقلبه على ربه ويمن بلسانه على خلق الله فمثله كمثل صفوان ، والصفوان هي الحجارة الصلدة الملساء الصلبة - كالبلاط والرخام - صار عليه شيء من التراب والغبار لكن هذا التراب لا يثبت ولا يستقر على هذا الصفوان ولا يُنبت شيئاً فإذا نزل عليه من السماء وابل - وهو الماء الغزير المنصب بقوة - غسل هذا الصلد وزال عنه التراب وما يمكن أن ينتفع منه الإنسان بزراعة من هذا التراب. {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير}. بستان مرتفع أصابه مطر غزير فآتى أكله ضعفين فإن لم يُصبه وابل فطل ، وهو المطر الخفيف والندى ، ولن تخرج عن هاتين الحالتين: إما رطوبة من الجو - وهو الندى والمطر الخفيف ينزل عليها فتؤتي خيراً - ، وإما أن ينزل مطر كثير فتؤتي أكلها مضاعف.
إذاً ـ إخوتي الكرام ـ المنُّ يُبطل العمل عند الله ‘ وبأي شيء تمن يا عبد الله ، أنت ملك لله ، وما تقوم بطاعته إلا بتوفيق الله ، ثم تلك الطاعات التي تقوم بها فهي من كرم الله فهو الذي منَّ عليك بهذا المال حتى تصدقت فأنت منه وبه وإليه فبأي شيء تدل ، ولم تعجب ، وعلام تمن؟ ! .
والله جل وعلا يقول في الحديث القدسي ، وهو حديث أبي ذر الطويل (وهو ثابت في مسند أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه) عن نبينا فيما يرويه عن ربه أنه قال: [يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحرَّماً فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه].
فإن وُفقت للعمل الصالح فهذا زيادة فضل من الله عليك وأمَّا أن تمن على الله وعلى عباد الله فهذا حال المخذولين ، مَن يحبطون عملهم في هذه الحياة ويلقون الله مفلسين يوم الدين فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
*************************
المحبط الرابع: - رفع الصوت على نبينا ، فكيف بتقديم الآراء على حديثه وهديه :
أن يرفع صوته عند سرد حديث النبي ، وأن يُقدِّم رأيه واجتهاده وكلامه على كلام النبي فهذا مُحبط للعمل وإساءة أدب مع خير خلق الله ، قال الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } (الحجرات:2).
لا رفع لصوت على صوته ولا في حضرته ، وإذا نودي يُنادى بأشرف الألفاظ وأفخمها ، فهذا خير المخلوقات عند رب الأرض والسموات عليه صلوات الله وسلامه كما قال ربنا العزيز الغفور في آخر سورة النور: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(النور:63).
والآية تحتمل معنيين: المعنى الثاني - الذي يتعلق بغرضنا في هذه الموعظة - وهو أن هذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول ، لا تجعلوا دعاءكم للرسول - عندما تدعونه وتنادونه وتتكلمون في حضرته الشريفة المباركة - كما يدعوا بعضكم بعضاً ، إياكم ثم إياكم ، فهذا يُخاطب بألفاظ التوقير والتبجيل والتعظيم : يا رسول الله ، يا نبي الله ، يا خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
وأما أن يُخبر الإنسان عن نبينا بأنه محمد بن عبد الله فذلك من قلة الأدب والبذاءة والجفاء ، ألا قلت: قال محمد خير خلق الله ، ألا قلت: قال محمد رسول الله ، ألا قلت قال رسولنا حبيب الله ، ألا قلت قال سيدنا محمد خاتم النبيين ، ولا يضاف نبينا إلى والده إلا عند حكاية نسبه فقط محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، عند بيان النسب الشريف المبارك ، وأما أن يقال في مجالس العلم قال محمد بن عبد الله فهذه بذاءة وجفاء وعدم احترام لخاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وقد أفتى الحافظ ابن حجر الهيثمي بأن من قال ذلك فينبغي أن يُعذَّر من قِبل ولي الأمر لبذاءته وعدم تأدبه مع نبينا خير خلق الله .
سبحان ربي العظيم! رفع الصوت على صوت النبي وفي حضرته وفي مجلسه قد يترتب عليه حبوط العمل عند الله عز وجل فكيف بمن قدم رأيه على حديث النبي ؟! كيف من احتكم إلى ذوقه ورأيه واجتهاده وردَّ حديث النبي من أجل هوسه؟!
إخوتي الكرام:
رفع الصوت والجهر بالقول على قول النبي مُشعر بحبوط العمل عند الله فكيف بتقديم الآراء على الشريعة الغراء؟ فكيف بالافتراء على خاتم الأنبياء ؟ وإلى من يدعي تقليد السلفية بالاسم - لا في الحكم - أذكر لك كلام الإمام ابن القيم في مثلك - وفيك وفي أمثالك - يقول في كتاب مدارج السالكين (1/325) هل كان في الصحابة من إذا سمع نص رسول الله عارضه بقياسه أو ذوقه أو وجده أو عقله أو سياسته؟ وهل كان قط أحد منهم يُقدم على نص الرسول عقلاً أو قياساً أو ذوقاً أو رأياً أو سياسة أو تقليد مقلد؟ ، فقلد أكرم الله أعينهم وصانها من أن تنظر إلى وجه مَن هذا حاله أو يكون في زمانهم ، ولقد حكم سيدنا عمر على مَن قدَّم حكمه على نص النبي بالسيف وقال هذا حكمي فيه.
فأقول: فيا الله! كيف لو رأى سيدنا عمر ما رأينا ، وشاهد ما بُلينا به من تقديم رأي فلان وفلان على قول المعصوم ومعاداة من اطرح آراءهم وقدَّم عليها قول المعصوم . وأثر عمر الذي أشار إليه الإمام ابن القيم نزل على إثره قول الله : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } (النساء:65).
وقد روى الأثر الإمام الثعلبي والكلبي من رواية أبي صالح عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - والإسناد ضعيف ، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (5/37) : وإن كان إسناده ضعيفاً لكنه يتقوى بطريق مجاهد ، وقد روي هذا الأثر عن مجاهد وغيره من أئمة التابعين - رضوان الله عليهم أجمعين - .
وخلاصة ما فيه : أنه وقعت خصومة بين بعض المنافقين وبين يهودي في زمن نبينا فطلب اليهودي من المنافق الاحتكام إلى نبينا ، فأراد المنافق من اليهودي الاحتكام إلى كعب بن الأشرف ، فأبى اليهودي ، فذهبا إلى النبي وقصَّا عليه قصتهما ، فحكم النبي بأن الحق لليهودي ، فلما خرجا قال المنافق هلم بنا إلى أبي بكر ، فذهبا إليه ، فلما عرض المنافق عليه القصة قال اليهودي: يا أبا بكر ذهبنا إلى النبي فحكم بأن الحق لي ، فقال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يحكم في مسألة حكم فيها رسول الله . ثم ذهبا إلى عمر بن الخطاب ، فلما قص المنافق عليه القصة وطلب منه الحكم فيها قال اليهودي: يا عمر ذهبنا إلى النبي فحكم بأن الحق لي ، ثم ذهبنا إلى أبي بكر فقال ما كان لابن أبي قحافة أن يحكم في مسألة حكم فيها رسول الله . فقال عمر للمنافق: أحقيق ما يقول اليهودي؟ قال: نعم. قال انتظرا ، ثم دخل إلى بيته وأخرج سيفه وضرب عنق المنافق وقال: هذا حكمي فيمن لم يقبل بحكم رسول الله فأنزل الله : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم …}.
وأئمتنا قالوا في الحديث المتقدم: {لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان} - كما قال الإمام الترمذي - قال: قال بعض أهل العلم: أي لا يدخل النار التي يُخلَّد فيها الكفار ، إمَّا أنه لا يدخلها رأساً ، وإذا قُدِّر أن بعض الموحدين دخل فلن يُخلَّد. فالأحاديث إذا ما استبانت لك سلِّم لنبيك ، وإذا استبان لك معناها فاحمد الله .
وقد ذكر نحو ما قاله الإمام الترمذي شيخ الإسلام الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ( 2/90) فما بعدها.
وانظر إلى هذه الواقعة: حدَّث أمير المؤمنين في الحديث (محمد بن خازم أبو معاوية الضرير) في مجلس هارون الرشيد - وكان محمد بن خازم يقول: ما حدثت بحديث إلا قال هارون الرشيد: صلى الله وسلم على سيدي – يقول: فحدثت بحديث اختصام نبي الله موسى وآدم والمحاجة التي وقعت بينهما - والحديث في المسند والكتب الستة إلا النسائي - ولفظ الحديث كما في الصحيحين وغيرهما من رواية أبي هريرة عن نبينا قال: " احتج آدم وموسى ، فقال نبي الله موسى : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال نبينا : فقال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ، أتلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني ، أو قدَّره علي قبل أن يخلقني؟ قال نبينا : فحجَّ آدم موسى" .
وفي بعض روايات الحديث: " احتج آدم وموسى عند ربهما" ، والعندية هنا عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان ، فيُحتمل وقوع ذلك في كل من الدارين - كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (11/505) - : " فحجَّ آدم موسى ، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض؟ قال أبونا آدم: أنت موسى الذي اصفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقرَّبك نجيَّا ، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم فهل وجدت فيها: }وعصى آدم ربه فغوى{؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة".
قال نبينا : "فحجَّ آدم موسى" عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ؛ ومعنى حجَّ آدم موسى: أي غلبه بالحجة وظهر عليه بها ، والسبب في ذلك أن أبانا آدم تاب إلى ربه وأناب ، وقد غفر له الكريم الوهاب ، وقد خرج أبونا آدم من دار التكليف إلى دار الجزاء والحساب ، فلومه محض تخجيل ، ولا يترتب عليه إلا التحسير ، وهو ممنوع منه في شرع الله الجليل ، ولذلك قال ساداتنا الأولياء: ذكر الجفاء وقت الصفاء من الجفاء.
فلما حدَّث محمد بن خازم بهذا الحديث قال عم هارون الرشيد: يا أبا خازم أين اجتمعا؟ . فقال هارون الرشيد: عليَّ بالسيف والنطع . فقال أبو خازم : ومَنْ في المجلس يا أمير المؤمنين ، إنها هفوة . قال هارون: والله زندقة. يعترض على حديث النبي ويقول أين التقى موسى بآدم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام؟
فقال عم هارون: يا أمير المؤمنين: والله ما قلت هذا عناداً وجحوداً إنما رأياً وقع في نفسي . فقال هارون: لله عليَّ أن أضرب رقبتك أو تخبرني بمن قال لك هذا الكلام ، ثم قال: وراءه أناس يُبيِّتون هذا الكلام والاعتراض على حديث النبي ، هذه مدرسة زنادقة لابد من أن نوقفها بهذا السيف..
قال يا أمير المؤمنين: ما أعلمني بهذا أحد ، ولا تحدثت به لأحد ، ولا حدثني به أحد إنما لما ذُكر هذا الحديث انقدح في ذهني هذا الكلام ، وهذه زلة وهفوة. فقال الرشيد: خلِّدوه في السجن حتى يُقر على مَن يُعلِّمه هذا الكلام ، ثم بعد ذلك له ولمن معه هذا السيف وهذا النطع . فمكث في السجن زماناً وأقسم بالأيمان المغلظة أنه ما قال هذا عناداً للنبي ولا إنكاراً لحديثه ، وما علم به أحد . فأطلقه هارون الرشيد وكفَّر عن يمينه .
*************************
المحبط الخامس: - ترك صلاة العصر تعمداً .
ثبت هذا عن نبينا في (أحمد ، والبخاري ، وابن ماجه ، والنسائي ، وغيرهم وهو صحيح) ولفظ الحديث من رواية بريدة بن الحصين أنه قال: بكروا بصلاة العصر أيام الغيم فإني سمعت النبي يقول : "من ترك صلاة العصر حبط عمله " .
وعند أحمد بسند صحيح من رواية أبي الدرداء أن النبي قال: " من ترك صلاة العصر متعمداً فقد حبط عمله ".
والإنسان إذا ترك صلاة العصر إما أن يتركها تعمداً ، والتعمد ليس من باب الجحود ولا الاستهزاء ، إنما التعمد تركها كسلاً ، وأما إذا تركها بعد ذلك ذهولاً عنها - لاشتغاله بأمور الدنيا - فله عقوبة أخرى - مع شناعتها - أخف من هذه العقوبة. كما ثبت في (مسند أحمد وموطأ مالك وسنن الدارمي وفي الصحيحين وغيرهم) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال: " الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتر أهله وماله". وفي رواية :"من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتر أهله وماله": أي سُلِب وفقد أهله وماله ، وأصل الموتور في لغة العرب يدل على دلالتين اثنتين:
الدلالة الأولى: إذا أصيب الإنسان في أهله وفي ماله ووقعت الإصابة أمام عينيه ولا يستطيع أن يثأر ممن أوقع البأس بأهله يقال إنه موتور فقد اجتمع عليه غمان: غم وقوع المصيبة على أهله وماله ، وغم عدم أخذ الثأر ممن أوقع بأهله البأس والضر. وهنا اجتمع غمان وعقوبتان على من فاتته صلاة العصر لاشتغاله بأمور الدنيا ، الغم الأول: فاته الثواب ، والغم الثاني: سيحصل العقاب.
هناك كأنما وُتر أهله وماله ، وأما هنا فقد حبط عمله ، كما حقق ذلك الحافظ ابن حجر فقال: لفظ الترك مُشعر بأنه تعمَّد ترك الصلاة حتى خرج وقتها ، فإذا فعل الإنسان هذا في صلاة العصر حبط عمله.
ومعنى الحديث يحتمل أن يحبط عمله في ذلك اليوم أو أن يحبط عمله كله ، وعِلم ذلك عند ذي الجلال والإكرام ، وهذا الحبوط لا يعني أن الإنسان كافر لا ثم لا ،
قال الحافظ ابن حجر: " من ترك صلاة العصر" قال بعض العلماء: أي جحوداً وعنادا ، أو استهزاءً واستخفافاً فهو كافر بالله حبط عمله ، وهنا نقض عبوديته لربه ، فهو أتى بما يُسقط عمله ويُبطل عمله عند ربه . وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أنه من ترك صلاة العصر متعمداً كسلاً فقد حبط عمله ، قال: هذا ورد مورد الزجر والتغليظ وأن العمل قد يحبط عند الله دون أن يكون العامل من الكافرين ، ومال إلى هذا الحافظ ابن حجر.
والذي يظهر أنه لا تعارض بين هذه التوجيهات ، فمن ترك صلاة العصر جاحداً لفرضيتها مستخفاً مستهزئاً بها فلا شك في كفره وردته ، وليس كلامنا فيه ، إنما لو تركها عامداً كسلاً دون جحود لفرضيتها ودون استهزاء بها فقد عرَّض عمله للحبوط عند الله .
وقال ابن القيم - رحمه الله – في تعليقه على حديث: "من ترك صلاة العصر حبط عمله" : والذي يظهر في الحديث - والله أعلم بمراد رسوله - أن الترك نوعان : ترك كلي لا يصليها أبداً فهذا يُحبط العمل جميعه ، وترك معين في يوم معين فهذا يُحبط عمل ذلك اليوم ، فالحبوط العام في مقابلة الترك العام والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين ، فعلى هذا أيها المؤمنون من ترك صلاة من الصلوات في يوم من الأيام كأن يترك صلاة الفجر من يوم أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فإن عمله ذلك اليوم حابط باطل ولو كان أمثال الجبال أما من ترك الصلاة بالكلية فهذا كافر مرتد كل عمله باطل حابط نعوذ بالله من الخذلان.
إخوتي الكرام:
والسبب الذي من أجله خُصت صلاة العصر بهذه الميزة العظيمة أمور كثيرة يمكن أن نُجملها في أربعة أمور:
أولها: صلاة العصر هي مظنة انشغال الناس عنها ، فوقتها يقع بعد تعب في النهار وقيلولة ينام الإنسان فيها بعد الظهر فقد يشغل عن هذا الفرض العظيم الذي له أجر كريم عظيم عند ربنا الكريم من أجل هذا وقع هذا التغليظ والتشديد في ترك صلاة العصر.
الثاني: صلاة العصر هي خاتمة الطاعات التي يتقرب بها الإنسان إلى رب الأرض والسموات في ذلك اليوم ، فهي آخر صلاة وجبت عليك في ذلك اليوم فإذا أذَّن المغرب دخلت في اليوم الثاني ، واليوم يخرج يقيناً بغروب الشمس.
الثالث: الذي من أجله صار لصلاة العصر تلك المنزلة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية : إن صلاة العصر عرضها الله على الأمم السابقة وكلفهم بها فأبوا أن يتحملوها وما قاموا بها فكلفت بها هذه الأمة المباركة ، فلها شأن عظيم ، فمن قام بها أعطاه الله أجرين ، وهذا الذي أشار إليه الإمام ابن تيمية ثبت ما يقرره في (مسلم والنسائي ومعجم الطبراني الكبير وغيرهم وهو حديث صحيح) من رواية أبي بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله في الطريق ثم قال:" إن هذه الصلاة قد فرضها الله على الأمم قبلكم فأبوا أن يحملوها فمن قام بها منكم أعطاه الله أجره مرتين".
الرابع: الذي من أجله صار لصلاة العصر تلك المنزلة : أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى ، والله يقول في كتابه: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}.
وقد أكثر أئمتنا المفسرون في بيان المراد من الصلاة الوسطى ، وهناك خمسة أقوال - كل قول حدد صلاة من الصلوات الخمس - وأرجحها كما قال الحافظ ابن كثير ، وقد ثبت عن نبينا تفسير الصلاة الوسطى بصلاة العصر ، فتعين القول إلى هذا والمصير إليه.
ففي الصحيحين من رواية علي قال: إن النبي قال يوم الأحزاب في موقعة الخندق: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس". وفي رواية :" شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ... ".
وفي (مسند أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم) عن عبد الله بن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرت ، فقال رسول الله : "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً ، أو حشى الله أجوافهم وقبورهم ناراً".
وفي (مسند أحمد ومسلم والسنن الأربعة إلا سنن ابن ماجه) عن أمنا عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت في قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} : الصلاة الوسطى : صلاة العصر ، سمعتها من رسول الله .
فالصلاة الوسطى هي العصر فهي ختام أعمال اليوم ، وهي فرضت على الأمم قبلنا فما تحملوها ، وبها أقسم الله جل وعلا على أحد أقوال ثلاثة قيلت في تفسير سورة العصر خلاصتها أن الله أقسم بالعصر ، والمراد منه ثلاثة أقوال:
القول الأول: هو الدهر وهو الزمن. ويدخل في هذا ثلاثة أقوال:
أن العصر: هو العشي . وهو الوقت الذي يكون من زوال الشمس إلى غروبها .
والعصر: هو عصر الإنسان وزمن كل إنسان ، فأقسم الله بعمر كل إنسان وبما يوقع في عمره من أعمال ينال بها الفوز أو الخسران.
والعصر: هو عصر النبي ، ونقل هذا عن عدد من أئمتنا الكرام. قال الإمام الرازي: وقد أقسم الله جل وعلا بعمر النبي ، وأقسم ببلد النبي ، وأقسم بزمن النبي .
وثبت عن حبر الأمة ابن عباس - رضي الله عنهما - في كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم ودلائل النبوة للبيهقي والأثر رواه ابن مردويه في تفسيره قال: [ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد ، وما سمعت الله أقسم بعمر إنسان إلا بنبينا ].
والقول الثاني: أن الكلام من باب الحذف ، والتقدير: ورب العصر ، أقسم الله بذاته وبربوبيته لمخلوقاته.
والقول الثالث: وهو محل الشاهد: أقسم الله بصلاة العصر لما لها من منزلة وشأن عند الله جل وعلا.
وهذه السورة مع وجازتها بليغة يقول فيها الإمام الشافعي : (لو تدبَّر الناس هذه السورة لوسعتهم) وقد بلغ من تذكير الصحابة بعضهم بعضاً بها ما رواه الطبراني في معجمه الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان. والحديث رجاله ثقات وإسناده صحيح ، ولفظ الحديث من رواية أبي مدينة قال: [كان الرجلان من أصحاب النبي إذا اجتمعا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على صاحبه والعصر إن الإنسان لفي خسر …] .
لهذه الأمور المتقدمة كان لصلاة العصر تلك المنزلة : " من ترك صلاة العصر حبط عمله ".
*************************
بجُل
محبطات الأعمال
مقدمة
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ، ومذل من أضاع أمره وعصاه ، وموفق أهل طاعته لما يحبه ويرضاه ، وأصلي وأسلم على خير عبد اجتباه ، وأفضل رسول اصطفاه ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد .
لقد كان السَّلَفُ الصالح يعملون الطاعات ويخافُونَ ألا يُتقبَّل منهم عَمَلُهُمْ فقد سألت أم المؤمنين عائشةُ - رضي الله عنها - رسول الله عن أهل هذه الآية :}وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ{ (المؤمنون:60) ، أهمُ الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ فقال : «لا يا ابنة الصِّديق ، ولكنهم الذين يُصلُّون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يُقبل منهم» (صحيح ابن ماجه) .
وعلى المسلم الذي يرجوا رحمة الله تعالى ألا يكتفي بفعل بالمأمورات وترك المحظورات بل عليه أيضاً أن يبتعد عن جميع المحبطات التي تُحبط أجر وثواب الطاعات فتجعل أعماله الصالحة هباءً منثورا ، ولا يتأتى له ذلك إلا بمعرفتها أولاً ثم اجتنابها والابتعاد عنها ثانياً ، ولا يُعفيه جهله بأنها محبطات من حبوط عمله إذا وقع في أحدها ، لقوله تعالى: }أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون{ (الحجرات: 2) ، لأن الواجب على المسلم أن يتعلم ما أمره الله به فيفعله ، وما نهاه عنه فيتركه ، وما ينقض دينه ويُبطل طاعاته فيجتبه .
وقد جمعت في هذه الرسالة "أربعةً وعشرين محبطاً" هي جُل محبطات الأعمال التي لا تُخرج صاحبها من الإسلام وإنما تُحبط أعماله الصالحة وتُضيِّع أجرها ، وقد أخذت – بتصرف - العشر محبطات الأول منها من ثلاث محاضرات للشيخ عبد الرحيم الطحان بعنوان: " محبطات الأعمال " من موقعه ، والأربع محبطات التي بعدها من محاضرات بعنوان: " محبطات الأعمال " كتبها الشيخ/ عبده الأقرع بمجلة التوحيد المصرية ، ثم أخذت العشرة الأخيرة من مصادر شتى واجتهاداً مني ، فما كان فيها من صواب فمن الله وحده ، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله منه براء ، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه ،
والله أسأل أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم ، وأن ينفعني بها وإخواني المسلمين ، إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبها
أبو بكر العدوي
*************************
المبحث الأول: أقسام محبطات الأعمال
تنقسم محبطات الأعمال إلى قسمين :
القسم الأول :
ما يُحبط جميع أعمال العبد ويُبطل عبوديته لله ويُخرجه من الإسلام ، وهذا يحوي خمسة أنواع هي :
1- الكفر ، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً}(الكهف: 105) ، وقال تعالى:}وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }(المائدة:5).
2- الشرك ، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65).
3- الردة ، قال تعالى: }وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }(البقرة:217).
4- النفاق الاعتقادي ، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }(محمد:9).
5- البدعة المكفرة ، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }(محمد:28).
والقسم الثاني :
ما يُحبط ثواب الطاعات فقط ولا يُخرج العبد من دائرة الإسلام ، وقد جمعت فيه (24) محبطاً ، وهي :
1- الرياء وعدم الإخلاص لرب الأرض والسماء .
2- الابتداع في الدين وعدم الإتباع لنبينا الأمين .
3- المن على المخلوق باللسان وعلى الخالق بالجنان .
4- رفع الصوت على نبينا فكيف بتقديم الآراء على حديثه وهديه .
5- ترك صلاة العصر تعمداً .
6- الوقوع في الزور والآثام في شهر رمضان ووقت الصيام.
7- الاحتيال على الحرام .
8- أكل الحرام .
9- شرب الخمر .
10- إسبال الإزار عن الكعبين للرجال في الصلاة خيلاء .
11- عقوق الوالدين .
12- قطيعة الرحم .
13- أذى الجار .
14- الذهاب للعرافين .
15- فعل عبادة مؤقتة بوقت بعد خروج وقتها .
16- فعل طاعة بارتكاب محرم .
17- الكلام بالمسجد أثناء خطبة الجمعة .
18- إمامة القوم وهم له كارهون .
19- نشوز المرأة حتى ترجع إلى طاعة زوجها.
20 - التألي على الله .
21- إرادة الدنيا بعمل الآخرة .
22- العجب بالنفس .
23- الإحداث في المدينة ، أو إيواء محدثٍ فيها .
24- الانتساب لغير الأب تعمداً .
**************************
المبحث الثاني: تفصيل تلك المحبطات
المحبط الأول: - الرياء وعدم الإخلاص لرب الأرض والسماء:
الرياء في اللغة: مشتق من الرؤية ، وهي: النظر ، يقال: رائيته ، مُراءات ، ورياء ، إذا أريتُه على خلاف ما أنا عليه. وفي الاصطلاح: أن يُظهر الإنسان العمل الصالح للآخرين أو يُحسِّنه عندهم ، أو يظهر عندهم بمظهر مندوب إليه ليمدحوه ويعظم في أنفسهم.
فمن أراد وجه الله والرياء معاً فقد أشرك مع الله غيره في هذه العبادة ، أما لو عمل العبادة وليس له مقصد في فعلها أصلاً سوى مدح الناس فهذا صاحبه على خطر عظيم ، وقد قال بعض أهل العلم: إنه قد وقع في النفاق والشرك المخرج من الملة.
والرياء له صور عديدة ، منها :
1 - المراءاه بالعمل ، كمراءاة المصلي بطول الركوع والسجود.
2 - المراءاة بالقول ، كسرد الأدلة إظهاراً لغزارة العلم ، ليُقال:عالم.
3 - المراءاة بالهيئة والزي ، كإبقاء أثر السجود على الجبهة رياء.
وقد وردت أدلة كثيرة تدل على تحريم الرياء وعِظم عقوبة فاعله ، وأنه يُبطل العمل الذي يصاحبه. ، منها:
أ- حديث محمود بن لبيد مرفوعاً :"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" ، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال: "الرياء ، يقول الله لهم يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم جزاء؟" ،
ب- حديث محمود بن لبيد الآخر، قال: خرج النبي فقال: " أيها الناس ، إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ . قال: يقوم الرجل فيصلي فيزيِّن صلاته جاهداً لما يرى من نظر الناس إليه ، فذلك شرك السرائر ".
ج- حديث أبي هريرة في خبر الذين هم أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة ، وهم: " رجل قاتل في الجهاد حتى قتل ، ليقال : جريء ، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن ليقال : عالم وقارئ ، ورجل تصدق ليقال: جواد ". (رواه مسلم) .
ولهذا ينبغي للمسلم البعد عن الرياء والحذر من الوقوع فيه ،
وهو أن لا يُخلص الإنسان في عبادته لربه جل وعلا فيكون العمل مردود ، قال ربنا المعبود في سورة الكهف :{فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}. وثبت في صحيح مسلم وسنن ابن ماجه من رواية أبي هريرة أن النبي قال: " قال الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه". وفي رواية ابن ماجه: " فهو للذي أشرك وأنا منه بريء".
فالرياء يُحبط الطاعات ويُبدِّل الحسنات إلى سيئات .
*************************
المحبط الثاني: - الابتداع في الدين وعدم الاتباع لنبينا الأمين :
ثبت (في المسند والصحيحين وأبي داود وابن ماجه وغيرهم ) من رواية أمنا عائشة - رضي الله عنها - أن النبي قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ، وفي رواية لمسلم: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في شرح الحديث: قوله: "أحدث" أي أتى بشيء جديد. "في أمرنا" أي في ديننا. "ما ليس منه" أي باعتبار الشرع . "رد" بمعنى مردود ، وهذه الكلمة مصدر ، والفعل (رد) ، والمصدر هنا بمعنى اسم المفعول (مردود) ويأتي المصدر بمعنى اسم المفعول ولذلك شواهد من اللغة ، منها كلمة (الحمل) فهي بمعنى (المحمول) كما في قوله تعالى: } وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ{(الطلاق:6) أي محمول. وفي هذا الحديث يخبر النبي - بجملة شرطية - أن من أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد ، مردود على صاحبه ، حتى إن كان أحدثه عن حسن نية فإنه لا يُقبل منه ، لأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرع. ولهذا كان من القواعد المقررة عند أهل العلم: " أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على المشروعية" ، قال سبحانه : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (الشورى:21) وهذا إنكار عليهم.
وعلى العكس من ذلك فالأصل في المعاملات والأفعال والأعيان الإباحة والحل حتى يقول دليل على المنع.
وهذا الحديث ورد في العبادات وهي التي يقصد الإنسان بها التعبُّد والتقرب إلى الله ، فنقول لمن يزعم شيئاً عبادة: هات الدليل على أن هذا عبادة ، وإلا فقولك مردود.
ويحتاج هذا الحديث إلى تحرير بالغ.
فأولاً: ينبغي معرفة هل هذا عبادة أم عادة.
فمثلاً لو أن رجلاً قال لصاحبه الذي نجا من هلكة: ما شاء الله ، هنيئاً لك. فقال له رجل: هذه بدعة. فهذا القول غير صحيح ، لأن هذا من أمور العادة وليس من أمور العبادة. وفي الشرع ما يشهد لهذا حيث جعل الناس يُهنئون كعب بن مالك بتوبة الله عليه في حديثه الطويل. وكثير من التهاني التي تحدث بين الناس لا يزعم أحد أنها بدعة إلا بدليل ، لأنها أمور عادات لا عبادات ، وكمن قابل رجلاً نجح في امتحان فقال له: مبارك. فمن يقول : هذه بدعة فهو غير محق في ذلك.
وإذا تردد الأمر بين كونه عبادة أو عادة فالأصل أنه عادة ، ولا يُنهى عنه حتى يقوم دليل على أنه عبادة.
وتوجد أشياء ابتدعها الناس في دين الله ، كإحداث أذكار معينة - بصيَّغ وعدد ووقت - وهي لم تُشرع على هذا الوجه لا في الزمن ولا العدد ، ولا الهيئة ، كمن يسبح ألف مرة ويلتزم بذلك ويجعله في الصباح مثلاً ، فهذا العمل بدعة ، مردود على صاحبه لا ثواب له.
فإن قال: كيف تنكرون أن أقول : سبحان الله ؟ فنقول : نحن لا نُنكر عليك قولك سبحان الله ، بل نُنكر عليك أن تأتي بها على هذه الصفة التي لم ترد ، أما أن تسبح آناء الليل وأطراف النهار تسبيحاً غير مقيد بزمن ، ولا عدد ، ولا هيئة فلا ننكر عليك.
وكذلك ما يحدث في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول من اجتماع الناس وإتيانهم بصيغ من الصلاة والسلام على رسول الله لم ترد عن الرسول ولا أصحابه بل هي محشوة من الغلو في رسول الله الذي حذر أمته منه ، ويأخذون في ترانيم على صفات معينة ، فكل هذا بدع مردودة.
وإذا قالوا: نحن نصلي على رسول الله لننال ثواب الصلاة عليه. فنقول لهم: تحديدها بزمان ، وعدد معيّن ، وصيغة معيَّنة قد تكون غير واردة أو منهياً عنها ، كل هذا جعلها بدعة مردودة.
واعلم أنك لن تحدث بدعة في دين الله إلا انتزع الله من قلبك من السنة ما يقابل هذه البدعة ، لأن القلب وعاء إن ملأته بالخير لم يبق فيه مكان للشر ، وإن ملأته بالشر لم يبق فيه مكان للخير ، وإذا ملأته بالسنَّة لم يبق فيه مكان للبدعة ، وإذا ملأته بالبدعة لم يبق فيه مكان للسنة. وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: تجد هؤلاء الحريصين على البدع عندهم قصور وفتور في إتباع السنن ، ولا يكادون يأتون بها على الوجه المطلوب.
ولذلك فإذا تعبد إنسان في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بعبادات من أذكار وصلوات على رسول الله وغير ذلك ، فهذه بدعة ، ونجيب على من يفعل ذلك من وجهين:
الأول: أنه لم يثبت أن رسول الله عُرج به في هذه الليلة ، وهذا يُبطل كل ما ينبني على هذا.
الوجه الثاني: لو سلمنا بذلك فهذا لا يقتضي أن نُثبت لها شيئاً من العبادات ، لأن الصحابة لم يجعلوا فيها شيئاً من هذه العبادات ، والواجب على المؤمن أن يتبع ما جاء به الشرع ، ولو اتبعنا ما كان عليه سلفنا الصالح فعلاً وتركاً صرنا أسعد مما نحن عليه اليوم.
وهذا الحديث كذلك ميزان للأعمال الظاهرة ، كما أن حديث عمر بن الخطاب في النية ميزان للأعمال الباطنة ، فحديث عائشة – رضي الله عنها - عن المتابعة ، وحديث عمر عن النية ، والعبادة لا تُقبل إلا بالإخلاص والمتابعة.
وهنا نذكر مثلاً ما يفعله الناس من التسابق (التزحلق) على الجليد ، فهذا لا يُنكر عليه ، لأن هذا من العادات لا من العبادات ، وكذلك المصارعة فيما لا ضرر فيه ، فإن اشتمل على ضرر كان حراماً ، ليس لأنه بدعة ، بل لما فيه من الضرر.
فالبدعة تكون في الأمور التعبدية ، أما أمور العادات فإن كان فيها ضرر مُنعت وإلا فالأصل فيها الحل.
وكذلك من لبس لباساً غير معهود ولم ينه الشرع عنه فلا نُنكر عليه. ولو أن رجلاً داوم على حلق رأسه كلما نبت شعره حلقه ، فهذا من الأمور العادية ، ولهذا لما رأى رسول الله غلاماً قد حلق بعض رأسه ، قال: "احلقه كله أو اتركه كله". وهذا دليل على أنه ليس من باب العبادة وإلا لأرشد النبي إلى إبقاء الشعر ، ولهذا فالراجح من أقوال أهل العلم أن إطلاق الشعر من الأمور العادية إن اعتادها الناس فعلت وإلا فلا.
ولو لبس الإنسان لباساً يُخالف العادة - ولكنه غير محرم شرعاً - فلا ينبغي ، لئلا يكون لباس شهرة ، ولباس الشهرة هو الذي يشتهر به الإنسان حتى يُقال : هذا الثوب مثل ثوب فلان ، وقد يكون بالدون وقد يكون بالأعلى ، حتى قال بعض العلماء: لو أن رجلاً فقيراً لبس ثياب الأغنياء صار في حقه ثوب شهرة ، ولو أن رجلاً غنياً لبس ثياب الفقراء صار في حقه ثوب شهرة. وإنما يلبس كل إنسان ما يناسب حاله. واليوم والحمد لله لم يعد هناك فرق كبير بين ثوب الغني والفقير.
وبناءً على ما تقدم فإنه لا يُستحب أن يقصد العمرة في ليلة السابع والعشرين من رمضان ، ومن قصد ذلك فقد أتى بشيء لا دليل عليه ، فليلة القدر وإن كان لها خاصية لكنها لا تطلب بأداء العمرة فيها بل بقيامها لقول النبي : "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه". ولم يقل : من اعتمر ، وقال : "عمرة في رمضان تعدل حجة" ، ولم يقل : عمرة في ليلة سبع وعشرين تعدل حجة.
فننصح لإخواننا الذين يريدون وجه الله أن تكون أعمالهم موافقة لشرع الله سبحانه ، لأن مجرد إخلاص النية وإرادة وجه الله لا يكفي في قبول العلم ، كما سبق بيانه. ولم أجد في سنة رسول الله ما يدل على استحباب العمرة ليلة السابع والعشرين ، بل هي كغيرها من أيام رمضان في فضل الاعتكاف لما سبق من قوله : "عمرة في رمضان".
ولا يفيد الإنسان أن يعبد الله بالعاطفة - بدون أصل شرعي يرجع إليه - لأن ذلك اتباع للهوى ، فللشرع حدود معينة مضبوطة من كل وجه حتى لا يتفرق الناس فيها شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون.
ثم إن ليلة القدر ليست مخصوصة بليلة سبع وعشرين ، فالنصوص الواردة عن رسول الله تدل أنها تتنقل في الأعوام ففي عام تكون ليلة ثلاث وعشرين ، وفي آخر ليلة خمس وعشرين ، وغيره ليلة تسع وعشرين وثمان وعشرين ، وست وعشرين.. وهكذا. ...... وقال : "التمسوها في خامسة تبقى ، في رابعة تبقى ،..." إلى آخر الحديث. وهذا يدل أنها تنتقل ولا تتعين في ليلة سبع وعشرين. ونرى كثيراً من المسلمين يجتهدون في ليلة سبع وعشرين ويتساهلون فيما عداها ، وقد تكون في غيرها فيحرمون خيرها . وينبغي للإنسان أن يجتهد في تلك الليالي كلها في الدعاء بقلب خالص وأمل في الله سبحانه ، وأن يحرص على اجتناب أكل الحرام ، لأنه من أسباب رد الدعاء ، وذلك في قوله : "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" وفي الحديث: "ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعت أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، ومشربه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب له" . و(أنى( للاستفهام بمعنى الاستبعاد ، أي بعيد أن يستجيب الله له.
ولهذا فأحذر إخواني من أكل الحرام ، وهو ليس فقط كما يظن البعض أكل الخنزير ، والميتة ، وشرب الخمر بل يشمل أكل الحرام لذاته كهذه الأشياء ، وأكله لكسبه ، بأن يكون الشيء حلالاً ثم يصير حراماً كالمغصوب والمسروق.
وكذلك المرابي ومن يأكل الربا سواء بصراحة أو بتحايل ، والحيلة في ذلك أقبح من الصراحة لأنها تتضمن مفسدتين: المحرم ، والمخادعة والخيانة لله سبحانه ، وهذا لا يُخادع إلا نفسه ، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فالخلاصة: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل على المشروعية ، وأن كل من أحدث في دين الله ما ليس منه فهو رد مردود على صاحبه ، وأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرع ، وأنه لابد من الإخلاص لله والمتابعة لرسوله . (نقلاً من منتدى سفينة النصح – باختصار).
*************************
المحبط الثالث: - المن على المخلوقات باللسان وعلى رب الأرض والسموات بالجنان:
تمن على الله بقلبك وتعجب بفعلك وكأنك تمن عليه عندما عبدته ، وتمن بعد ذلك على المخلوقات عندما تقوم بالإحسان والخيرات إليها {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين}.
انظر لهذه الصورة التي صوَّر الله بها عمل المان الذي يمن بقلبه على ربه ويمن بلسانه على خلق الله فمثله كمثل صفوان ، والصفوان هي الحجارة الصلدة الملساء الصلبة - كالبلاط والرخام - صار عليه شيء من التراب والغبار لكن هذا التراب لا يثبت ولا يستقر على هذا الصفوان ولا يُنبت شيئاً فإذا نزل عليه من السماء وابل - وهو الماء الغزير المنصب بقوة - غسل هذا الصلد وزال عنه التراب وما يمكن أن ينتفع منه الإنسان بزراعة من هذا التراب. {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير}. بستان مرتفع أصابه مطر غزير فآتى أكله ضعفين فإن لم يُصبه وابل فطل ، وهو المطر الخفيف والندى ، ولن تخرج عن هاتين الحالتين: إما رطوبة من الجو - وهو الندى والمطر الخفيف ينزل عليها فتؤتي خيراً - ، وإما أن ينزل مطر كثير فتؤتي أكلها مضاعف.
إذاً ـ إخوتي الكرام ـ المنُّ يُبطل العمل عند الله ‘ وبأي شيء تمن يا عبد الله ، أنت ملك لله ، وما تقوم بطاعته إلا بتوفيق الله ، ثم تلك الطاعات التي تقوم بها فهي من كرم الله فهو الذي منَّ عليك بهذا المال حتى تصدقت فأنت منه وبه وإليه فبأي شيء تدل ، ولم تعجب ، وعلام تمن؟ ! .
والله جل وعلا يقول في الحديث القدسي ، وهو حديث أبي ذر الطويل (وهو ثابت في مسند أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه) عن نبينا فيما يرويه عن ربه أنه قال: [يا عبادي إني حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحرَّماً فلا تظالموا ، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفِّيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه].
فإن وُفقت للعمل الصالح فهذا زيادة فضل من الله عليك وأمَّا أن تمن على الله وعلى عباد الله فهذا حال المخذولين ، مَن يحبطون عملهم في هذه الحياة ويلقون الله مفلسين يوم الدين فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
*************************
المحبط الرابع: - رفع الصوت على نبينا ، فكيف بتقديم الآراء على حديثه وهديه :
أن يرفع صوته عند سرد حديث النبي ، وأن يُقدِّم رأيه واجتهاده وكلامه على كلام النبي فهذا مُحبط للعمل وإساءة أدب مع خير خلق الله ، قال الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } (الحجرات:2).
لا رفع لصوت على صوته ولا في حضرته ، وإذا نودي يُنادى بأشرف الألفاظ وأفخمها ، فهذا خير المخلوقات عند رب الأرض والسموات عليه صلوات الله وسلامه كما قال ربنا العزيز الغفور في آخر سورة النور: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }(النور:63).
والآية تحتمل معنيين: المعنى الثاني - الذي يتعلق بغرضنا في هذه الموعظة - وهو أن هذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول ، لا تجعلوا دعاءكم للرسول - عندما تدعونه وتنادونه وتتكلمون في حضرته الشريفة المباركة - كما يدعوا بعضكم بعضاً ، إياكم ثم إياكم ، فهذا يُخاطب بألفاظ التوقير والتبجيل والتعظيم : يا رسول الله ، يا نبي الله ، يا خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
وأما أن يُخبر الإنسان عن نبينا بأنه محمد بن عبد الله فذلك من قلة الأدب والبذاءة والجفاء ، ألا قلت: قال محمد خير خلق الله ، ألا قلت: قال محمد رسول الله ، ألا قلت قال رسولنا حبيب الله ، ألا قلت قال سيدنا محمد خاتم النبيين ، ولا يضاف نبينا إلى والده إلا عند حكاية نسبه فقط محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، عند بيان النسب الشريف المبارك ، وأما أن يقال في مجالس العلم قال محمد بن عبد الله فهذه بذاءة وجفاء وعدم احترام لخاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وقد أفتى الحافظ ابن حجر الهيثمي بأن من قال ذلك فينبغي أن يُعذَّر من قِبل ولي الأمر لبذاءته وعدم تأدبه مع نبينا خير خلق الله .
سبحان ربي العظيم! رفع الصوت على صوت النبي وفي حضرته وفي مجلسه قد يترتب عليه حبوط العمل عند الله عز وجل فكيف بمن قدم رأيه على حديث النبي ؟! كيف من احتكم إلى ذوقه ورأيه واجتهاده وردَّ حديث النبي من أجل هوسه؟!
إخوتي الكرام:
رفع الصوت والجهر بالقول على قول النبي مُشعر بحبوط العمل عند الله فكيف بتقديم الآراء على الشريعة الغراء؟ فكيف بالافتراء على خاتم الأنبياء ؟ وإلى من يدعي تقليد السلفية بالاسم - لا في الحكم - أذكر لك كلام الإمام ابن القيم في مثلك - وفيك وفي أمثالك - يقول في كتاب مدارج السالكين (1/325) هل كان في الصحابة من إذا سمع نص رسول الله عارضه بقياسه أو ذوقه أو وجده أو عقله أو سياسته؟ وهل كان قط أحد منهم يُقدم على نص الرسول عقلاً أو قياساً أو ذوقاً أو رأياً أو سياسة أو تقليد مقلد؟ ، فقلد أكرم الله أعينهم وصانها من أن تنظر إلى وجه مَن هذا حاله أو يكون في زمانهم ، ولقد حكم سيدنا عمر على مَن قدَّم حكمه على نص النبي بالسيف وقال هذا حكمي فيه.
فأقول: فيا الله! كيف لو رأى سيدنا عمر ما رأينا ، وشاهد ما بُلينا به من تقديم رأي فلان وفلان على قول المعصوم ومعاداة من اطرح آراءهم وقدَّم عليها قول المعصوم . وأثر عمر الذي أشار إليه الإمام ابن القيم نزل على إثره قول الله : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } (النساء:65).
وقد روى الأثر الإمام الثعلبي والكلبي من رواية أبي صالح عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - والإسناد ضعيف ، قال الحافظ ابن حجر في الفتح (5/37) : وإن كان إسناده ضعيفاً لكنه يتقوى بطريق مجاهد ، وقد روي هذا الأثر عن مجاهد وغيره من أئمة التابعين - رضوان الله عليهم أجمعين - .
وخلاصة ما فيه : أنه وقعت خصومة بين بعض المنافقين وبين يهودي في زمن نبينا فطلب اليهودي من المنافق الاحتكام إلى نبينا ، فأراد المنافق من اليهودي الاحتكام إلى كعب بن الأشرف ، فأبى اليهودي ، فذهبا إلى النبي وقصَّا عليه قصتهما ، فحكم النبي بأن الحق لليهودي ، فلما خرجا قال المنافق هلم بنا إلى أبي بكر ، فذهبا إليه ، فلما عرض المنافق عليه القصة قال اليهودي: يا أبا بكر ذهبنا إلى النبي فحكم بأن الحق لي ، فقال أبو بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يحكم في مسألة حكم فيها رسول الله . ثم ذهبا إلى عمر بن الخطاب ، فلما قص المنافق عليه القصة وطلب منه الحكم فيها قال اليهودي: يا عمر ذهبنا إلى النبي فحكم بأن الحق لي ، ثم ذهبنا إلى أبي بكر فقال ما كان لابن أبي قحافة أن يحكم في مسألة حكم فيها رسول الله . فقال عمر للمنافق: أحقيق ما يقول اليهودي؟ قال: نعم. قال انتظرا ، ثم دخل إلى بيته وأخرج سيفه وضرب عنق المنافق وقال: هذا حكمي فيمن لم يقبل بحكم رسول الله فأنزل الله : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم …}.
وأئمتنا قالوا في الحديث المتقدم: {لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان} - كما قال الإمام الترمذي - قال: قال بعض أهل العلم: أي لا يدخل النار التي يُخلَّد فيها الكفار ، إمَّا أنه لا يدخلها رأساً ، وإذا قُدِّر أن بعض الموحدين دخل فلن يُخلَّد. فالأحاديث إذا ما استبانت لك سلِّم لنبيك ، وإذا استبان لك معناها فاحمد الله .
وقد ذكر نحو ما قاله الإمام الترمذي شيخ الإسلام الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ( 2/90) فما بعدها.
وانظر إلى هذه الواقعة: حدَّث أمير المؤمنين في الحديث (محمد بن خازم أبو معاوية الضرير) في مجلس هارون الرشيد - وكان محمد بن خازم يقول: ما حدثت بحديث إلا قال هارون الرشيد: صلى الله وسلم على سيدي – يقول: فحدثت بحديث اختصام نبي الله موسى وآدم والمحاجة التي وقعت بينهما - والحديث في المسند والكتب الستة إلا النسائي - ولفظ الحديث كما في الصحيحين وغيرهما من رواية أبي هريرة عن نبينا قال: " احتج آدم وموسى ، فقال نبي الله موسى : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال نبينا : فقال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ، أتلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني ، أو قدَّره علي قبل أن يخلقني؟ قال نبينا : فحجَّ آدم موسى" .
وفي بعض روايات الحديث: " احتج آدم وموسى عند ربهما" ، والعندية هنا عندية اختصاص وتشريف لا عندية مكان ، فيُحتمل وقوع ذلك في كل من الدارين - كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (11/505) - : " فحجَّ آدم موسى ، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض؟ قال أبونا آدم: أنت موسى الذي اصفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقرَّبك نجيَّا ، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أُخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم فهل وجدت فيها: }وعصى آدم ربه فغوى{؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة".
قال نبينا : "فحجَّ آدم موسى" عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ؛ ومعنى حجَّ آدم موسى: أي غلبه بالحجة وظهر عليه بها ، والسبب في ذلك أن أبانا آدم تاب إلى ربه وأناب ، وقد غفر له الكريم الوهاب ، وقد خرج أبونا آدم من دار التكليف إلى دار الجزاء والحساب ، فلومه محض تخجيل ، ولا يترتب عليه إلا التحسير ، وهو ممنوع منه في شرع الله الجليل ، ولذلك قال ساداتنا الأولياء: ذكر الجفاء وقت الصفاء من الجفاء.
فلما حدَّث محمد بن خازم بهذا الحديث قال عم هارون الرشيد: يا أبا خازم أين اجتمعا؟ . فقال هارون الرشيد: عليَّ بالسيف والنطع . فقال أبو خازم : ومَنْ في المجلس يا أمير المؤمنين ، إنها هفوة . قال هارون: والله زندقة. يعترض على حديث النبي ويقول أين التقى موسى بآدم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام؟
فقال عم هارون: يا أمير المؤمنين: والله ما قلت هذا عناداً وجحوداً إنما رأياً وقع في نفسي . فقال هارون: لله عليَّ أن أضرب رقبتك أو تخبرني بمن قال لك هذا الكلام ، ثم قال: وراءه أناس يُبيِّتون هذا الكلام والاعتراض على حديث النبي ، هذه مدرسة زنادقة لابد من أن نوقفها بهذا السيف..
قال يا أمير المؤمنين: ما أعلمني بهذا أحد ، ولا تحدثت به لأحد ، ولا حدثني به أحد إنما لما ذُكر هذا الحديث انقدح في ذهني هذا الكلام ، وهذه زلة وهفوة. فقال الرشيد: خلِّدوه في السجن حتى يُقر على مَن يُعلِّمه هذا الكلام ، ثم بعد ذلك له ولمن معه هذا السيف وهذا النطع . فمكث في السجن زماناً وأقسم بالأيمان المغلظة أنه ما قال هذا عناداً للنبي ولا إنكاراً لحديثه ، وما علم به أحد . فأطلقه هارون الرشيد وكفَّر عن يمينه .
*************************
المحبط الخامس: - ترك صلاة العصر تعمداً .
ثبت هذا عن نبينا في (أحمد ، والبخاري ، وابن ماجه ، والنسائي ، وغيرهم وهو صحيح) ولفظ الحديث من رواية بريدة بن الحصين أنه قال: بكروا بصلاة العصر أيام الغيم فإني سمعت النبي يقول : "من ترك صلاة العصر حبط عمله " .
وعند أحمد بسند صحيح من رواية أبي الدرداء أن النبي قال: " من ترك صلاة العصر متعمداً فقد حبط عمله ".
والإنسان إذا ترك صلاة العصر إما أن يتركها تعمداً ، والتعمد ليس من باب الجحود ولا الاستهزاء ، إنما التعمد تركها كسلاً ، وأما إذا تركها بعد ذلك ذهولاً عنها - لاشتغاله بأمور الدنيا - فله عقوبة أخرى - مع شناعتها - أخف من هذه العقوبة. كما ثبت في (مسند أحمد وموطأ مالك وسنن الدارمي وفي الصحيحين وغيرهم) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال: " الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتر أهله وماله". وفي رواية :"من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتر أهله وماله": أي سُلِب وفقد أهله وماله ، وأصل الموتور في لغة العرب يدل على دلالتين اثنتين:
الدلالة الأولى: إذا أصيب الإنسان في أهله وفي ماله ووقعت الإصابة أمام عينيه ولا يستطيع أن يثأر ممن أوقع البأس بأهله يقال إنه موتور فقد اجتمع عليه غمان: غم وقوع المصيبة على أهله وماله ، وغم عدم أخذ الثأر ممن أوقع بأهله البأس والضر. وهنا اجتمع غمان وعقوبتان على من فاتته صلاة العصر لاشتغاله بأمور الدنيا ، الغم الأول: فاته الثواب ، والغم الثاني: سيحصل العقاب.
هناك كأنما وُتر أهله وماله ، وأما هنا فقد حبط عمله ، كما حقق ذلك الحافظ ابن حجر فقال: لفظ الترك مُشعر بأنه تعمَّد ترك الصلاة حتى خرج وقتها ، فإذا فعل الإنسان هذا في صلاة العصر حبط عمله.
ومعنى الحديث يحتمل أن يحبط عمله في ذلك اليوم أو أن يحبط عمله كله ، وعِلم ذلك عند ذي الجلال والإكرام ، وهذا الحبوط لا يعني أن الإنسان كافر لا ثم لا ،
قال الحافظ ابن حجر: " من ترك صلاة العصر" قال بعض العلماء: أي جحوداً وعنادا ، أو استهزاءً واستخفافاً فهو كافر بالله حبط عمله ، وهنا نقض عبوديته لربه ، فهو أتى بما يُسقط عمله ويُبطل عمله عند ربه . وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أنه من ترك صلاة العصر متعمداً كسلاً فقد حبط عمله ، قال: هذا ورد مورد الزجر والتغليظ وأن العمل قد يحبط عند الله دون أن يكون العامل من الكافرين ، ومال إلى هذا الحافظ ابن حجر.
والذي يظهر أنه لا تعارض بين هذه التوجيهات ، فمن ترك صلاة العصر جاحداً لفرضيتها مستخفاً مستهزئاً بها فلا شك في كفره وردته ، وليس كلامنا فيه ، إنما لو تركها عامداً كسلاً دون جحود لفرضيتها ودون استهزاء بها فقد عرَّض عمله للحبوط عند الله .
وقال ابن القيم - رحمه الله – في تعليقه على حديث: "من ترك صلاة العصر حبط عمله" : والذي يظهر في الحديث - والله أعلم بمراد رسوله - أن الترك نوعان : ترك كلي لا يصليها أبداً فهذا يُحبط العمل جميعه ، وترك معين في يوم معين فهذا يُحبط عمل ذلك اليوم ، فالحبوط العام في مقابلة الترك العام والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين ، فعلى هذا أيها المؤمنون من ترك صلاة من الصلوات في يوم من الأيام كأن يترك صلاة الفجر من يوم أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فإن عمله ذلك اليوم حابط باطل ولو كان أمثال الجبال أما من ترك الصلاة بالكلية فهذا كافر مرتد كل عمله باطل حابط نعوذ بالله من الخذلان.
إخوتي الكرام:
والسبب الذي من أجله خُصت صلاة العصر بهذه الميزة العظيمة أمور كثيرة يمكن أن نُجملها في أربعة أمور:
أولها: صلاة العصر هي مظنة انشغال الناس عنها ، فوقتها يقع بعد تعب في النهار وقيلولة ينام الإنسان فيها بعد الظهر فقد يشغل عن هذا الفرض العظيم الذي له أجر كريم عظيم عند ربنا الكريم من أجل هذا وقع هذا التغليظ والتشديد في ترك صلاة العصر.
الثاني: صلاة العصر هي خاتمة الطاعات التي يتقرب بها الإنسان إلى رب الأرض والسموات في ذلك اليوم ، فهي آخر صلاة وجبت عليك في ذلك اليوم فإذا أذَّن المغرب دخلت في اليوم الثاني ، واليوم يخرج يقيناً بغروب الشمس.
الثالث: الذي من أجله صار لصلاة العصر تلك المنزلة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية : إن صلاة العصر عرضها الله على الأمم السابقة وكلفهم بها فأبوا أن يتحملوها وما قاموا بها فكلفت بها هذه الأمة المباركة ، فلها شأن عظيم ، فمن قام بها أعطاه الله أجرين ، وهذا الذي أشار إليه الإمام ابن تيمية ثبت ما يقرره في (مسلم والنسائي ومعجم الطبراني الكبير وغيرهم وهو حديث صحيح) من رواية أبي بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله في الطريق ثم قال:" إن هذه الصلاة قد فرضها الله على الأمم قبلكم فأبوا أن يحملوها فمن قام بها منكم أعطاه الله أجره مرتين".
الرابع: الذي من أجله صار لصلاة العصر تلك المنزلة : أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى ، والله يقول في كتابه: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}.
وقد أكثر أئمتنا المفسرون في بيان المراد من الصلاة الوسطى ، وهناك خمسة أقوال - كل قول حدد صلاة من الصلوات الخمس - وأرجحها كما قال الحافظ ابن كثير ، وقد ثبت عن نبينا تفسير الصلاة الوسطى بصلاة العصر ، فتعين القول إلى هذا والمصير إليه.
ففي الصحيحين من رواية علي قال: إن النبي قال يوم الأحزاب في موقعة الخندق: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس". وفي رواية :" شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ... ".
وفي (مسند أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم) عن عبد الله بن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرت ، فقال رسول الله : "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً ، أو حشى الله أجوافهم وقبورهم ناراً".
وفي (مسند أحمد ومسلم والسنن الأربعة إلا سنن ابن ماجه) عن أمنا عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت في قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} : الصلاة الوسطى : صلاة العصر ، سمعتها من رسول الله .
فالصلاة الوسطى هي العصر فهي ختام أعمال اليوم ، وهي فرضت على الأمم قبلنا فما تحملوها ، وبها أقسم الله جل وعلا على أحد أقوال ثلاثة قيلت في تفسير سورة العصر خلاصتها أن الله أقسم بالعصر ، والمراد منه ثلاثة أقوال:
القول الأول: هو الدهر وهو الزمن. ويدخل في هذا ثلاثة أقوال:
أن العصر: هو العشي . وهو الوقت الذي يكون من زوال الشمس إلى غروبها .
والعصر: هو عصر الإنسان وزمن كل إنسان ، فأقسم الله بعمر كل إنسان وبما يوقع في عمره من أعمال ينال بها الفوز أو الخسران.
والعصر: هو عصر النبي ، ونقل هذا عن عدد من أئمتنا الكرام. قال الإمام الرازي: وقد أقسم الله جل وعلا بعمر النبي ، وأقسم ببلد النبي ، وأقسم بزمن النبي .
وثبت عن حبر الأمة ابن عباس - رضي الله عنهما - في كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم ودلائل النبوة للبيهقي والأثر رواه ابن مردويه في تفسيره قال: [ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد ، وما سمعت الله أقسم بعمر إنسان إلا بنبينا ].
والقول الثاني: أن الكلام من باب الحذف ، والتقدير: ورب العصر ، أقسم الله بذاته وبربوبيته لمخلوقاته.
والقول الثالث: وهو محل الشاهد: أقسم الله بصلاة العصر لما لها من منزلة وشأن عند الله جل وعلا.
وهذه السورة مع وجازتها بليغة يقول فيها الإمام الشافعي : (لو تدبَّر الناس هذه السورة لوسعتهم) وقد بلغ من تذكير الصحابة بعضهم بعضاً بها ما رواه الطبراني في معجمه الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان. والحديث رجاله ثقات وإسناده صحيح ، ولفظ الحديث من رواية أبي مدينة قال: [كان الرجلان من أصحاب النبي إذا اجتمعا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على صاحبه والعصر إن الإنسان لفي خسر …] .
لهذه الأمور المتقدمة كان لصلاة العصر تلك المنزلة : " من ترك صلاة العصر حبط عمله ".
*************************
أحمدى العدوى- تقني متميز
- عدد المساهمات : 49
نقاط : 81
تاريخ التسجيل : 04/05/2009
رد: التذكير بمحبطات الأعمال
المحبط السادس: - الوقوع في الزور والبهتان والآثام في شهر الصيام:
فمن صام فكذب ووقع في الزور وعمل الآثام فقد بطل صيامه عند ذي الجلال والإكرام.
إخوتي الكرام:
تقدم معنا ما للصيام من منزلة عند الله وأن من صام شهر رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لكن هذا يكون للصيام المقبول الذي لا تأتي فيه بعمل مرذول تنقض به صيامك وتحبط أجره عند ربك جل وعلا.
ثبت في (مسند أحمد والبخاري والسنن الأربعة ، وابن حبان والبيهقي في السنن الكبرى) من رواية أبي هريرة أن النبي قال: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ".
وورد من رواية أنس بن مالك بلفظ: "من لم يدع الكذب والخنا في صيامه فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه".
وفي (مسند أحمد وابن ماجه والنسائي ومستدرك الحاكم والسنن الكبرى) من رواية أبي هريرة والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير من رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم أجمعين - أن النبي قال: "رُبَّ صائم حظُّه من صيامه الجوع والعطش ، ورُبّ قائم حظُّه من قيامه السهر" ، فإذا وقعت في شيء من الآثام بطل الصيام عند ذي الجلال والإكرام. أسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يُحسن خاتمتنا.
*************************
المحبط السابع: - الاحتيال على ما حرمه ذو العزة والجلال:
إخوتي الكرام إذا أمرنا الله بأمر فالواجب علينا أن نقوم بذلك الأمر وبما يستلزمه ذلك الأمر ، وإذا حرَّم الله علينا أمراً فالواجب علينا أن نترك ذلك الأمر وأن نترك ما يؤدي إلى ذلك الأمر الذي حرَّمه الله علينا ، وعندما حرَّم الله علينا استعمال فروجنا في غير ما أحل الله لنا من أزواجنا وسرارينا فإن هذا التحريم يستلزم تحريم النظر إلى ما حرم ربنا لأن النظر بريد الزنا: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (النور:30).
وقد وُجِد في هذه الأمة كما وُجد في الأمم السابقة أُناس يخادعون الله وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون فيحتالون على إبطال ما شرعه الله وعلى إسقاط ما أوجبه الله وعلى تحليل ما حرمه الله بحيل ردية لا تقبل عند رب البرية.
وقد روى شيخ الإسلام أبو عبد الله بن بطة في كتابه تحريم الحيل بسند حسن جيد - والحديث صحيح - عن أبي هريرة أن النبي قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
فاليهود عليهم لعائن ربنا المعبود عندما حرَّم الله عليهم الاصطياد يوم السبت احتالوا على ذلك المحرم بأمرين اثنين:
بالتأويل الخاطئ الجائر ، وبالاحتيال الخبيث الماكر.
أما فريق منهم: - وهم المؤولة تأويلاً باطلاً – قال: إن الله حرَّم علينا أكل الصيد يوم السبت ولم يُحرِّم علينا الاصطياد وعليه نصطاد وندخر لنأكل يوم الأحد فما بعده.
والفريق الثاني: - الذين سلكوا مسلك الاحتيال الماكر – فقد انقسموا إلى قسمين:
فريق منهم: حفر أحواضاً وبركاً بجوار البحر وفتحوا لها طريقاً ليدخل الماء مع السمك يوم السبت ، فإذا امتلأت تلك الأحواض بالسمك وضعوا الحاجز لئلا تعود إلى البحر مرة ثانية.
والفريق الثاني: كان يُمسك السمك من البحر بيديه ثم يربطها بحبل ويدق لها وتداً ويربط هذا الحبل بالوتد ثم يُلقي السمك مرة أخرى في البحر ، فإذا صار يوم الأحد سحب هذا الحبل والسمك فيه فأكله يوم الأحد ، والله جل وعلا يقول في كتابه: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذا يعدون في السبت إذا تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون * وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربهم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين * وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم }.
وقد تقدم معنا عن إمام أهل السنة أنه كان يقول: خطأ وضلال بني آدم منحصر في أمرين اثنين: في تأويل خاطئ ، وقياس فاسد ، والتأويل الخاطئ في الأدلة السمعية ، والقياس الفاسد في الأدلة العقلية ، فإذا جاء وأول النص تلاعب به ، وإذا جاء وأتى بحجج عقلية ففرق بين المتماثلين وسوى بين المختلفين فقاس قياساً فاسداً ، ولذلك قال أئمتنا: إن أهل الضلال يُسفسطون في العقليات ـ والسفسطة: هي المكابرة وجحد حقائق الأشياء ـ ويُقرمطون في السمعيات ـ والقرمطة: هي التلاعب بالمعاني ـ فإذا جاؤوا إلى مسلك السمع سلكوا مسلك القرامطة الباطنية ، واخترعوا للنصوص معاني ما أرادها رب البرية ، وهو التأويل الخاطئ ، وإذا جاؤوا للحجج العقلية أتوا بالأقيسة الفاسدة ، وقد جمع اليهود بين الأمرين ، وقد حذرنا نبينا من ذلك المسلك المشين فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
ولذلك قال الإمام ابن القيم : الحيل المحرمة في شريعة الله هي ما تضمنت إسقاط ما شرعه الله وإبطال ما أوجبه الله وتحليل ما حرمه الله .
إخوتي الكرام:
إن الحيَّل قد انتشرت في الأمة - لاسيما في هذا الزمان - وسلكوا مسلك اليهود اللئام ، إن الربا حرَّمه ربنا علينا فكل ما يؤدي إلى ذلك الأمر المحرم ينبغي أن نمتنع عنه ، وكثير من الناس يحتالون عليه بصور من صور المبايعات لكنها لا تخرج هذا الأمر عن كونه رباً محرماً في شريعة رب الأرض والسماء.
فبيع العينة بيع ؛ لكن الإنسان فيه أراد أن يحتال على الربا فباع سلعة بثمن مؤجل نسيئة بأقساط ، ثم اشتراها من المشتري منه بثمن معجل أقل مما باعها به.
هذه هي صورة العينة ، وهي صورة من صور الربا ؛ لكنها عن طريق الاحتيال ، وقد بيَّن لنا نبينا أن الأمة إذا وقعت في الاحتيال فقد سقطت من عين ذي العزة والجلال. ففي (مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما ، بسند صحيح) من رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال: " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتبعتم الزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم".
تحتالون على ما حرم الله وتخلدون إلى الدنيا وتجرون وراءها ولا تجاهدون في سبيل الله ، إذا اتصفتم بهذه الأمور : لا لله عظمتم ، ولا على الخلق أشفقتم ، فهمُّكم الاستغلال وتحصيل المال - ولو كان عن طريق الاحتيال - ثم بعد ذلك خلود إلى الدنيا ، وإعراض عن إعزاز دين الله عن طريق الجهاد. إذا وقع فيكم ذلك سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ، وما أظن أنه يوجد أمة من الأمم تعاني من الذل والعناء والبلاء ما تعانيه الأمة الإسلامية في هذه الأيام ولا يظلم ربك أحداً.
وهذه المبايعة المحرمة وقع بها بعض الصحابة الطيبين المهتدين عن طريق الخطأ وعدم تعمُّد لما حرَّم رب العالمين ولما نُبِّه إلى ذلك تنبَّه ورجع إلى رشده وصوابه وكل بني آدم خطاء ، والذي وقع في هذه المبايعة بعد وفاة نبينا العبد الصالح زيد بن أرقم فأصدرت في حقه أمنا الجليلة الفاضلة المفضلة أمنا عائشة - رضي الله عنها - حكماً يخلع القلوب ، ولا كفارة لذلك العيب من العيوب إلا أن يتوب زيد بن أرقم إلى علام الغيوب.
والقصة رواها (أحمد ، وعبد الرزاق ، والداراقطني ، والبيهقي في السنن الكبرى ، بسند صحيح) عن أبي إسحاق السبيعي عن زوجه العالية - وهي امرأة معروفة - دخلت على أمنا عائشة - رضي الله عنها - فسألتها فقالت: يا أم المؤمنين: بعت جارية إلى زيد بن أرقم بثمانين درهم إلى عطائه واشترط عليه أنه إذا أراد أن يبيع الجارية فينبغي أن يبيعني إياها ، فبعد فترة أراد أن يبيعها فباعني إياها فاشتريت الجارية منه بستمائة درهم نقداً ، فقالت أمنا عائشة - رضي الله عنها - : يا أم محبة ، بئس ما شريت وبئس ما اشتريت ، أخبري زيداً أن جهاده قد بطل مع رسول الله إلا أن يتوب . فقالت أم محبة: فما كفارته يا أم المؤمنين؟ فقالت: التوبة لرب العالمين {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ، فالتحايل على الحرام يُحبط العمل عند ذي الجلال والإكرام.
نعم إن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني ، فبيع العينة معاملة ربوية وهو في الظاهر مبايعة شرعية قال الإمام ابن الأثير ولذلك قالت أمنا عائشة - رضي الله عنها - هذا الكلام ، وانتشر بين الصحابة الكرام فلم يُنكر ذلك عليها أحد منهم - رضي الله عنهم - ، وانظروا كلام الإمام الشافعي في كتابه الأم (3/78) وقارنوه بما ذكرت .
إخوتي الكرام:
لو قدِّر أن الإنسان وقع في معصية من معاصي الرحمن فليعترف بتقصيره وليستغفر الله جل وعلا ، أما أن يسلك مسلك التأويل والاحتيال والتبرير فليس هذا من صفة المؤمنين ، ولذلك قال بعض القائلين ونعم ما قال:
وأشربها وأعلمها حراماً وأرجو عفو ربي ذي امتنان .... ويشربها ويزعمها حلالاً وتلك على المسيء خطيئتان
يقول: إذا ابتليت بشرب الخمر فاشربها وقل أنا عاصي لله وأرجو مغفرة الله ورحمة الله ، وإياك ثم إياك أن تحلل الخمر وبالتالي لا ترى أنك مسيء وبذلك تكون قد ارتكبت وزرين: شرب الخمر ، وعدم الاعتراف بالذنب.
*************************
المحبط الثامن: - أكل الحرام:
وأعني بأكل الحرام تناول الحرام ، سواء كان عن طريق الأكل أو الشرب أو اللباس أو السكن أو الأساس ، المقصود أنك تستعمل شيئاً لا يحل لك أن تستعمله وحرمه الله عليك (شراب ، طعام ، لباس ، أساس ، مسكن) كل هذا حصَّلته من طريق غير شرعي ، هذا يُحبط عملك عند الله ، وإن لم ينقض عبوديتك لربك ، وإن لم يجعلك من الكافرين ، لكن العمل لا يُقبل عند رب العالمين ، لا تُقبل الصلاة ولا الصيام ولا يُستجاب الدعاء إذا كان في تلك الأشياء التي تتعاطاها في هذه الحياة حرام ، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا فقال بعد آيات الصيام: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }(البقرة:187).
مُنبِّهاً إلى أننا إذا خالفنا هدي الله جل وعلا في آيات الصيام ، فأكلنا وشربنا ما حرَّم الله علينا في نهار رمضان لا يقبل الله منا الصيام ، وهكذا لو أكلنا الحرام من باب أولى لا يقبل الله منا الصيام ، لأن ترك الحرام آكد في شريعة ذي العزة والجلال من ترك الطعام والشراب في نهار رمضان ، استمع لهذه الدلالة التي استنبطها أئمتنا المفسرون – رحمهم الله – من قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }(البقرة:188). ، قالوا: كأن الله يقول: يا عبادي ، يا من أطعتموني في ترك الشراب والطعام في نهار رمضان ، أطيعوني في ترك الحرام على الدوام ، فإذا تناولتم شراباً وطعاماً في نهار الصيام لا يُقبل الصيام ، وإذا دخل جوفكم أو استعمل بدنكم شيئاً مما حرم الله في شراب أو طعام أو لباس أو سكن أو أساس لا تقبل العبادة عند الله جل وعلا كما لو أكلتم في نهار رمضان }ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون{ تعلمون أن هذا حُرِّم عليكم ، لا يجوز أن تأكلوا الأموال بالباطل ، ولا يجوز أن تدفعوا الرشوة إلى الحكام ليحكموا لكم بالباطل الذي حرمه الرحمن ، فإذا فعلتم شيئاً من ذلك لن تقبل الصلاة والصيام ولا غير ذلك من عبادات الرحمن ، وهذه الآية جاءت بعد عبادة الصيام .
وفي أثناء عبادة الصيام ذكر الله عبادة الدعاء ثم عقبها بالامتناع عن الحرام في جميع الأوقات وأن من لم يمتنع لن يقبل الله دعاءه ، ولن يقبل صومه ، ولن يقبل سائر عباداته ، فأكل الحرام مُحبط للأعمال عند ذي العزة والجلال.
وقد وضَّح لنا هذا نبينا ففي (مسند أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والدارمي ، والبيهقي في السنن الكبرى وهو صحيح) من رواية أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: " إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }(المؤمنون:51) ، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }(البقرة:172) ، قال أبو هريرة : ثم ذكر رسول الله : الرجل يُطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ".
وقد ثبت في صحيح ابن حبان من رواية جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي قال لكعب بن عجرة: " يا كعب بن عجرة : كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به " . وعند الترمذي وابن حبان من رواية كعب بن عجرة أنه قال: قال لي النبي :" يا كعب: كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ".
والحديث رواه (أبو يعلى ، والبزار ، والطبراني في معجمه الأوسط ، والبيهقي في السنن الكبرى وإسناده حسن) عن أبي بكر أنه قال سمعت النبي يقول: " كل جسد غذي بالحرام فالنار أولى به".
*************************
المحبط التاسع: - شرب الخمر:
مَن شرب الخمر يحبط عمله أربعين يوماً لا يُقبل عند الله كما أشار إلى هذا نبينا ، فالخمر أم الخبائث ، والخمر مصدر الرذائل ، وهي المصائد والمثبطات التي يثبط بها الشيطان بني الإنسان ، والخمر مفتاح كل شر ، والخمر يحصل بها اغتيال العقل . وقد ذم الله الخمر وعابها في العهد المكي في سورة النحل في قوله جل وعلا: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون}.
ثم حرمها الله جل وعلا في العهد المدني في العام الثامن للهجرة فاستمرت إباحتها إحدى وعشرين سنة ثم بعد ذلك حُرمت ، وأول ما نزل في ذمها آية النحل.
ثبت ذلك في السنن الكبرى للإمام البيهقي في الجزء 8/297 عن عبد الله بن عباس وعن مجاهد بن جبر - رضي الله عنهم أجمعين - قالا: السكر: هو الخمر قبل تحريمها ، والرزق الحسن هو الطعام ، وقال ابن عباس: إن الله حرَّم بعد ذلك السكر مع تحريم الخمر لأنه منها . ثم في العهد المدني أنزل الله فيها ثلاث آيات في الآية الأولى أخبر الله جل وعلا عن وجود الإثم فيها فقال: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما …}.
ثم أنزل الله جل وعلا آية أخرى في سورة النساء منع الله فيها عباده عن الخمر في أوقات الصلاة: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفورا}.
ثم أنزل الله في تحريمها الآية الثالثة في العهد المدني وهي في سورة المائدة وفيها يقول الله جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون …}.
فالخمر فيها اغتيال للعقل فإذا شربت قطرة منها تظل أربعون يوماً أعمالك حابطة ما تفعله بعد شرب الخمر من صالحات لمدة أربعين يوماً لا يقبل عند رب الأرض والسموات.
ثبت الحديث بذلك في (سنن الترمذي وحسنه ، ومستدرك الحاكم وصححه وأقر التصحيح الإمام الذهبي والإمام المنذري) ولفظ الحديث من رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال: " من شرب الخمر لم تُقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد الثالثة لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد في الرابعة لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب لم يتب الله عليه وغضب عليه وكان حقاً عليه أن يسقيه من نهر الخبال" قالوا: وما نهر الخبال؟ قال:" عصارة أهل النار". والحديث أقطع بصحته وأُسأل أمام الله فقد رُوي عن عدة من الصحابة الكرام بروايات متعددة فيه هذا المعنى ومن تلك الروايات رواية عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - وهي في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وابن ماجه ورواها الحاكم في المستدرك وصحح الرواية وأقرها الإمام الذهبي ، ورواها ابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده بنحو اللفظ المتقدم من رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - دون الزيادة التي في آخر الحديث :" فإن عاد الرابعة فتاب لم يتب الله عليه وغضب عليه …" ، وإنما " فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من نهر الخبال من طينة الخبال" قالوا وما نهر الخبال وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال:" صديد أهل النار".
ورواية ثالثة عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - هي في سنن أبي داود وإسنادها حسن لغيره ، ولفظ الحديث عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله :"كل مسكرٍ خمر ، وكل مسكرٍ حرام ، ومن شرب مسكراً بُخست صلاته أربعين صباح ، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يُسقيه من رضغة الخبال. قالوا: وما رضغة الخبال يا رسول الله؟ قال عصارة أهل النار". بُخست: أي انتقصت صلاته وما قبلت عند الله .
وهناك روايات متعددة بهذا المعنى منها رواية أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها - في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير ومنها رواية أصدق هذه الأمة لهجة أبي ذر في المسند ومعجم الطبراني الكبير ومسند البزار وإسناد الروايتين حسن ، ولفظ الروايتين أن النبي قال : " من شرب الخمر غضب الله عليه أربعين ليلة فإن مات مات كافرا ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد كان حقاً على الله أن يُسقيه من نهر الخبال ، قالوا: وما نهر الخبال يا رسول الله؟ قال: عصارة أهل النار".
وإذا غضب الله عليه لن يقبل منه عملا ، وقول نبينا :" فإن مات مات كافراً" كما تقدم معنا في نظائر هذه الأحاديث التي فيها الوعيد الشديد وإطلاق لفظ الكفر على العاصي إما أنه إذا استحل ، وإما أنه كفر دون كفر - والعلم عند الله - أو أنه شابه الكافرين في هذه الخصلة المذمومة ، تأويلات خمسة ذكرها أئمتنا في نظائر هذا الحديث .
*************************
المحبط العاشر: - إسبال الإزار عن الكعبين في حق الرجال في الصلاة ] خيلاء[:
من أسبل إزاره ]خيلاء[ لا يقبل الله صلاته ، وترد عليه صلاته إذا صلى وهو مسبل للإزار ، سواء كان بمفرده أو في الجماعة ، وقد رتب الشارع المطهر على جر الإزار عقوبتين:
الأولى: أن من نزل إزاره عن كعبيه فهو في النار قصد الخيلاء أو لم يقصد.
الثانية: أنه إذا نزل إزاره عن كعبيه خيلاء أو بطراً ورياءً فهو في النار ، ولا ينظر إليه الجبار جل جلاله ، ثم لا تقبل الصلاة بعد ذلك ، وهذا لا ينبغي لإنسان أن يقوله من رأيه ؛ إنما ينبغي أن ينقله عن نبينا ؛ وسأقتصر على حديثين اثنين أختم بهما هذه الموعظة إن شاء الله في تقرير هذا الأمر.
الحديث الأول: رواه أبو داود ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة ، ولفظ الحديث من رواية أبي هريرة ومن رواية بعض أصحاب النبي : [أن رجلا دخل إلى مسجد النبي ، فصلى وهو مسبل إزاره ، فلما انتهى من صلاته جاء إلى النبي وسلم عليه ، فقال له النبي : "اذهب فتوضأ وصلي" . فذهب وتوضأ وصلى ثم سلم على النبي ، فقال له النبي : " اذهب فتوضأ وصلي" . فلما ذهب فكر في نفسه وأن الأمر ليس بسبب وضوئه فقصَّر ثيابه ، ثم جاء إلى مسجد النبي فصلى ، فسكت عنه النبي فقال الصحابة لنبينا : يا رسول الله مالك أمرته بالوضوء ثم سكتَّ عنه قال: " إنه كان يُصلي وهو مسبلٌ إزاره ، ولا يقبل الله صلاة رجل مسبل".
وتقدم معنا أن النبي أمره بالوضوء من أجل أن يكسر نفسه ، لأن الشيطان خُلق من النار ، والنار تطفأ بالماء فلما كان الإزار يزرع في النفس الكبر والخيلاء أمره خاتم الأنبياء بالوضوء ليظهر هذا المعنى الذي حصل في نفسه من جر إزاره ثم قال له :" لا يقبل الله صلاة رجل مسبل".
والحديث الثاني: رواه أبو داود في سننه وأبو داود الطيالسي في مسنده مرفوعاً وموقوفا على عبد الله بن مسعود ورواه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني في معجمه الكبير موقوفاً على عبد الله بن مسعود وإسناد الأثر الموقوف حسن ، ولفظ الأثر أن عبد الله بن مسعود رأى رجلا يصلي وهو مسبل إزاره فقال: [من أسبل إزاره في صلاته فليس من الله في حل ولا حرام] ، وقد ذكر أئمتنا لأثر عبد الله بن مسعود ثلاث معاني:
أولها : أن من جر إزاره في صلاته فحاله كحال من لا يعتقد بتحليل ولا تحريم وصار كأنه من عداد الكافرين الذين لا يعتقدون بتحليل ولا تحريم إنما يفعلون حسبما تهوى أهواؤهم فليس من الله في حل ولا حرم.
الثاني : أن من جر إزاره في صلاته ليس من الله في حل ولا حرام ، أي لا يحله الله ولا يدخله الجنة ولا يحرم عليه النار.
الثالث : أن من جر إزاره في صلاته ليس في حل ولا حرام ؛ أي ليس له من الله في فعل حلال عندما جر إزاره إنما فعل معصية وإثماً ، ولا حرام ؛ أي ليس له احترام ومنزلة عند ذي الجلال والإكرام.
خلاصة الكلام:
لا يقبل الله العمل إلا إذا صدر من تقي قام بحق العبودية لربه على وجه التمام فإن نقض عبوديته لربه فهو من الكافرين ، ولا يُقبل عمله عند رب العالمين ، وإن خدش عبوديته لربه فعمله مردود عليه ، وإن لم يخرج من دائرة العبودية لرب البرية فالله لا يتقبل إلا من المتقين كما قرر ذلك ربنا في كتابه الكريم ، فقال سبحانه وتعالى في سورة المائدة عند حديثه عما جرى بين ولدي أبينا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين}.
يقول سيدنا علي رابع الخلفاء الراشدين كما في كتاب التقوى لابن أبي الدنيا: (لا يُقَلُّ ما تُقُبِل) ثم تلى قول الله: {إنما يتقبل الله من المتقين}. إذا قبل الله عملك هذا له شأن كبير كبير عند الله الجليل.
وثبت عن ثلاثة من الصحابة أولهم فضالة بن عبيد كما في كتاب التقوى لابن أبي الدنيا ، وثانيهم أبو الدرداء كما في تفسير ابن أبي حاتم ، وثالثهم عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم أجمعين - كما في تاريخ ابن عساكر قال هؤلاء الثلاثة كل واحد منهم يقول: لو أعلم أن الله تقبل مني ركعة أو سجدة أو صدقة كان أحب إلي من الدنيا وما عليها ثم تلى كل واحد منهم هذه الآية: {إنما يتقبل الله من المتقين}.
وزاد عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في الأثر المنقول عنه بعد أن تصدق بدرهم قال: لو أعلم أن الله قبل مني صدقة أو سجدة لما كان غائب أحب إلي من الموت ثم تلى: {إنما يتقبل الله من المتقين}.
وتقدم معنا كلام بعض الصالحين أبي يزيد البسطامي أنه كان يقول: والله لو صفت لي تهليلة لما باليت بعدها.
لابد إذاً من تحقيق العبودية على وجه التمام ليُقبل العمل ولا يعني هذا أن يكون الإنسان من المعصومين إنما كما قلت لا ينقض عبوديته لربه وإذا وقع في شيء من المعصية عن طريق الغفلة والذهول والشهوة التي تحجب العقل أحياناً لا أنه يوطن نفسه على ذلك ، لا ثم لا ، والله يقول في كتابه: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجناتٌ تجري من تحتها خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.
فإياك ثم إياك أن توطن نفسك على المعصية وإياك ثم إياك أن تستحل ما حرم الله عليك.
ثبت في سنن ابن ماجه بسند صحيح رجاله ثقات عن ثوبان مولى نبينا والحديث رواه أبو نعيم في الحلية في الجزء 1/177 من رواية سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنهم - أجمعين أن النبي قال: " لأعلمن أناساً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا ، فيجعلها الله هباءً منثوراً" ، قالوا يا رسول الله: صفهم لنا ، حلهم لنا ، جلهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم؟ فقال : " أما إنهم إخوانكم ، ويأخذون بحظهم من الليل كما تأخذون ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها".
وفي رواية الحلية: " ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام وثبوا عليه" قال مالك بن دينار : هذا والله هو النفاق. فقام المُعلَّى بن زياد وقبض على لحية مالك بن دينار ، وقال: صدقت أبا يحيى.
اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى بفضلك ورحمتك فأنت الكريم وأنت الأعلى . اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها يا أرحم الراحمين. اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً. (من محاضرات للشيخ عبد الرحيم الطحان على موقعه - بتصرف)
*************************
المحبط الحادي عشر: عقوق الوالدين:
عن عمرو بن مرة الجهني قال جاء رجلٌ إلى النبي فقال يا رسول الله ، شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصليتُ الخمس ، وأدَّيت زكاة مالي ، وصُمت رمضان ، فقال النبي : «مَن مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يَعُقًَّ والديه» (صحيح الترغيب) .
فقوله : «ما لم يعق والديه» أفادت هذه الجملة أن الصلوات الخمس وصيام الشهر، وإيتاء الزكاة لا ينفع ذلك صاحبه إذا كان عاقًا لوالديه ، يؤيد ذلك قوله : « ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفًا ولا عدلاً : عاقٌ ، ومنانٌ ، ومكذب بقدر» (صحيح الترغيب والترهيب).
بِرُّ الوالدين فريضة لازمةٌ ، وفضيلة جازمة ، وجُوبها حتمٌ ، وأداؤها عزم ، لا عذر لأحد في التساهل بها ، والتهاون بشأنها ، فإحسان الوالدين سابق ، وفضلهما عظيم ، فليس أعظم إحساناً ولا أكثر فضلاً بعد الله سبحانه وتعالى من الوالدين ، لله سبحانه نعمة الخلق والإيجاد ، وللوالدين بإذنه نعمة التربية والإيلاد يقول ابن عباس - رضي الله عنهما - ثلاث آياتٍ مقروناتٌ بثلاث لا تقبل واحدةٌ بغير قرينتيها }أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ{ (النساء) ، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يُقبل منه ، }وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ{ (البقرة) ، فمن صلى ولم يزكِّ لم يُقبل منه ، }أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ{ (لقمان) ، فمن شكرَ الله ولم يشكرْ لوالديه لم يُقبل منه ، فرِضى الله في رضى الوالدين ، وسخط الله في سخط الوالدين ، نهى سبحانه وتعالى عن أدنى مراتب الأذى ، نبه به على ما سواه فقال سبحانه:}وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا{ (الإسراء).
ألا وإنَّ من العار والشنار والويل والثبور أن يُفجأ الوالدان بالتنكر للجميل ، كانا يتطلعان للإحسان ، ويؤملان الصلة بالمعروف ، فإذا بهذا المخذول ، قد تناسى ضعفه وطفولته ، وأُعجبَ بشبابه وفتوَّته ، وغَرَّهُ تعليمُه وثقافتُه ، يؤذيهما بالتأففِ والتبرم ، ويجاهرهما بالسوءِ وفُحش القولِ ، يقهرُهما وينهرُهما بل ربَّما لطمَ بكفٍ أو رفسَ برجلٍ ، يريدان حياته ، ويتمنى موتهما ، وكأني بهما قد تمنيا أن لو كانا عقيمين ، تئن لهما الفضيلةُ ، وتبكي من أجلهما المروءةُ ، فيا من كان حاله كذلك }هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ{ (الرحمن) ، يا من كان هذا حاله أين أنت من قول الجبار سبحانه:} وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ{ (الأحقاف).
أيها العاق: أما علمت أن عقوق الوالدين من أكبر كبائر الذنوب؟ فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائرِ ؟ ثلاثًاً ، قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الإشراكُ باللهِ ، وعقوقُ الوالدين - وكان متكئًا فجلس – فقال: ألا وقولُ الزور ، وشهادةُ الزور» فمازال يُكرِّرها حتى قلنا لَيْتَهُ سَكَتَ (متفق عليه).
أيها العاق: أما علمت أنَّ الله لا ينظر إلى العاق يوم القيامة ، قال : «ثلاثةٌ لا ينظرُ الله إليهم يومَ القيامةَ: العاقُّ لوالديه ، ومدمنُ الخمرِ ، والمنَّانُ عطاءَه» (صحيح الترغيب).
أيها العاق: أما علمت أنَّ الله حرَّم الجنَّة على العاق ، قال : «ثلاثةٌ حرَّمَ الله تبارك وتعالى عليهم الجنةَ: مدمن الخمرِ ، والعاق ، والديوث الذي يقرُّ الخبث في أهله» (صحيح الترغيب).
أيها العاق: أما علمت أنَّ دعاءَ الوالدين مستجاب ، قال : «ثلاثُ دعواتٍ مُستجابات لهنَّ ، لا شكَّ فيهنَّ ، دعوةُ المظلومِ ، ودعوةُ المسافر ، ودعوةُ الوالدِ على وَلَدِه» (صحيح الجامع).
أيها العاق: أما علمت أنَّ عقوبة العقوق مُعجلة ، قال : «ما من ذنب أجدر أن يُعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخرُه له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (صحيح الجامع).
فمن برَّ بوالديه برَّ به بنوه ، ومن عقَّهما عقوه ، ولسوف تكونُ محتاجًا إلى بر أبنائك ، وسوف يفعلون معك كما فعلتَ مع والديك ، وكما تدينُ تدانُ ، والجزاءُ من جنس العمل.
فاتقوا الله أيها الأبناء ، وبادروا للبرِّ بوالديكم مهما كانت الأحوالُ ومهما كان على الأبوين من تقصير ، فبرهم واجبٌ ، والإحسان إليهم مُتعين ، قال الله تعالى:}وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا{ (لقمان).
واعلم أيها الابن مهما فعلت في بر الوالدين والإحسان إليهما فلن تقوم بواجبهما أو توفِّ حقوقهما فقد قال : «أنت ومالك لأبيك» (صحيح الجامع). وقال : «وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من دُنياك فاخرج لهما» (الإرواء).
لقي ابن عمر - رضي الله عنهما - رجلاً في المطاف يحمل أمه على ظهره يطوف بها ، فقال يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال ولا بزفرةٍ واحدة.
الله أكبر ، ما أعظم الحق ، وما أشد تقصير الخلق ، ولله در القائل:
إن للوالدين حــــقًاً علينا بعد حقِّ الإله في الاحترام
أَوْلَدَانَا وربيانا صغارًا فاســــــتحقا نهاية الإكرام
فحق على كل من كان مقصرًا في حق والديه أو أحدهما أن يبادر من الآن فيطبع قبلة حارةً على جبين أبيه أو أمه ، ويندم على ما مضى ، ويعتذر عما سلف قبل فوات الأوان ، قبل }أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ{ (الزمر) ، وحسب العاق نكدًا وخسرانًا أن يبوءَ بسخط الله ويُحرم من رضاه ، قال : «رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ، فلم يدخل الجنة» (رواه مسلم) .
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ (إبراهيم). (المحبط الرابع من محبطات الأعمال – إعداد/ عبده الأقرع – مجلة التوحيد - بتصرف).
*************************
المحبط الثاني عشر: قطيعة الرحم:
عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله قال : «إنَّ أعْمالَ بني آدَم تُعْرضُ كلَّ خميس ليلَةَ الجُمعة ، فلا يُقبل عملُ قاطِع رحم» (صحيح الترغيب).
وقرنت الرحم بحقِّ الله تعالى في التقوى ، قال الله تعالى:} وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ{ (النساء). وقرن الله الأمر بتوحيده والنهي عن الإشراكِ بالإحسان إلى الوالدين والأقربين ، قال تعالى:} وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى{ (النساء).
وبصلة الرحم أمر الله من سبقنا من الأمم ، وهي من الميثاق الذي أُخذ على بني إسرائيل }وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُون{ (البقرة).
فرحم الإنسان هم أولى الناس بالرعاية وأحقهم بالعناية ، وأجدرهم بالإكرام والحماية ، وإذا فُقد ذلك ، تقطعت الأوصال التي حذّر الله من قطعها ، فقال سبحانه:}وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار{ (الرعد).
فقطيعة الرحم شؤمٌ وخرابٌ ، وسببٌ للعنة وعمى الأبصار قال تعالى:}فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ{ (محمد) ،
وقد تكفل الله للرحم بأن يصل من وصلها ويقطع من قطعها فعن عائشة - رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله : «الرحمُ مُعلقةٌ بالعرشِ تقولُ مَن وصلني وصلهُ الله ، ومن قطعني قطعهُ الله» (متفق عليه) ، وعن عبد الرحمن بن عوف قال سمعت رسول الله يقول : « قال الله : أنا الله ، أنا الرحمن ، خلقتُ الرَّحم ، وشققتُ لها اسمًا من اسمي ، فمن وصلها وصلتُه ، ومن قطعَها قطعته ، أو قال بَتَتُّهُ» (صحيح الترغيب) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم ، فقالت هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعةِ ، قال نعم ، أما ترضينَ أن أصل من وصلكِ ، وأقطع من قَطَعَكِ؟ قالت بَلَى ، قال فذلك لك ، ثم قال رسول الله: «اقرؤوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم محمد » ، (صحيح الترغيب) . وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: «إن الرحم شُجنة من الرحم تقول يا ربِّ إني قُُطعت ، يا رب إني أُسيء إليَّ ، يا رب إنِّي ظُلمت ، يا رب ، يا رب ، فيجيبُها: ألا ترضين أن أصِلَ مَنْ وصَلَكِ ، وأقطعَ مَنْ قَطعَكِ» (البخاري ، ومسلم). معنى «شجنة» أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق وأفرع الشجرة . وعن أنس عن النبي أنه قال: «الرحم حَجنة متمسكة بالعرش ، تكلم بلسان ذلق: اللهم صِلْ مَنْ وصلني ، واقطع من قطعني » فيقولُ الله تبارك وتعالى: أنا الرحمنُ الرحيمُ ، إني شَقَقْتُ للرحمِ من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن بتكها بَتَكْتُه» (صحيح الترغيب) وقوله: «من بتكها بتكته» أي زمن قطعها قطعته .
وقد أخبر رسول الله أن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب ، وعقوبتها معجلةٌ في الدنيا قبل الآخرة
عن أبي بكرة قال: قال رسول الله «مَا مِنْ ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّلَ اللهِ لصاحِبِه العقوبةَ في الدنيا مع ما يدخرُ له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (البخاري ، ومسلم) ، وأخبر أن قاطع الرحم لا يدخل الجنة فعن أبي محمد جُبَير بن مطعم أن رسول الله قال: «لا يدخل الجنة قاطع» (البخاري ، ومسلم).
وعن سعيد بن زيد عن النبي ، أنه قال: «إنَّ مِن أربى الربِّا الاستطالة في عِرْضِ المسلم بغير حق ، وإن هذه الرحم شجنةٌ من الرحمنِ فمن قطعها حرَّم عليه الجنة» (صحيح الترغيب).
وفي المقابل بيَّن رسول الله أن صلة الرحم من أسباب دخول الجنة فعن أبي يوسف عبد الله بن سلام قال سمعت رسول الله يقول «يا أيها الناسُ ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيامٌ ، تدخلوا الجنة بسلام» (صحيح الترمذي ، وصحيح الجامع ، والصحيحة).
وبين رسول الله أن صلة الرحم ، محبةٌ في الأهل ، ومثراةٌ في المال ، ومنسأةٌ في الأثر ، وبركةٌ في الرزق ، وتوفيق في الحياة ، وعمارةٌ للديار ، يكتب الله بها العزة ، وتُملأ بها القلوب إجلالاً وهيبة ، فعن أنس أن رسول الله قال: «مَن أحبَّ أن يبسط له في رزقه ، ويُنسأَ له في أثره ، فلْيصِلْ رحمه» (متفق عليه). وعن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ النبي قال لها: «إِنَّه من أعطي حَظه من الرفق ، فقد أُعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ، وصلة الرحم وحسن الجوار ، أو حُسن الخُلق يعمر الديار ، ويزيدان في الأعمارِ» (صحيح الترغيب). وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله : «إنَّ أهلَ البيتِ ليكونون فجَرَةً ، فتنموا أموالهم ، ويكثر عددهم إذا تواصلوا» (صحيح الترغيب).
وبيَّن رسول الله أن الصدقة على الرحم ثوابها مبرور ، وأجرُها مضاعف ، فعن سلمان بن عامر عن النبي قال: «الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» (صحيح الجامع ، والمشكاة ، وصحيح الترغيب). وعن أم كلثوم بنت عقبة - رضي الله عنها - أن النبي قال: «أفضلُ الصدقةِ على ذي الرحم الكاشح» (صحيح الجامع ، والإرواء ، وصحيح الجامع). يعني أن أفضل الصدقة الصدقةُ على ذي الرحم المضمر العداوةَ في باطنه ، وهو في معنى قوله: « وتَصِلُ من قطعك» .
وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها - أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي ، فلما كان يومها الذي يدورُ عليها فيه ، قالت يا رسول الله ، إني أعتقتُ وليدتي؟ قال: «أو فعلت؟» قالت: نعم قال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» (متفق عليه).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله : «ليس الواصلُ بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها» (البخاري في الأدب باب ليس الواصل بالمكافئ). وعن أبي ذر قال: «أوصاني خليلي بخصالٍ من الخير ، أوصاني أن لا أنظر إلى من هو فوقي ، وأن أنظر إلى ما هو دوني ، وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم ، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت ، وأوصاني لا أخاف في الله لومة لائم ، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرًا ، وأوصاني أن أكثر من «لا حول ولا قوة إلا بالله» ، فإنها كنزٌ من كُنوز الجنة» (صحيح الترغيب). (المحبط الخامس من محبطات الأعمال – إعداد/ عبده الأقرع – مجلة التوحيد - بتصرف).
*************************
فمن صام فكذب ووقع في الزور وعمل الآثام فقد بطل صيامه عند ذي الجلال والإكرام.
إخوتي الكرام:
تقدم معنا ما للصيام من منزلة عند الله وأن من صام شهر رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لكن هذا يكون للصيام المقبول الذي لا تأتي فيه بعمل مرذول تنقض به صيامك وتحبط أجره عند ربك جل وعلا.
ثبت في (مسند أحمد والبخاري والسنن الأربعة ، وابن حبان والبيهقي في السنن الكبرى) من رواية أبي هريرة أن النبي قال: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ".
وورد من رواية أنس بن مالك بلفظ: "من لم يدع الكذب والخنا في صيامه فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه".
وفي (مسند أحمد وابن ماجه والنسائي ومستدرك الحاكم والسنن الكبرى) من رواية أبي هريرة والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير من رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم أجمعين - أن النبي قال: "رُبَّ صائم حظُّه من صيامه الجوع والعطش ، ورُبّ قائم حظُّه من قيامه السهر" ، فإذا وقعت في شيء من الآثام بطل الصيام عند ذي الجلال والإكرام. أسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يُحسن خاتمتنا.
*************************
المحبط السابع: - الاحتيال على ما حرمه ذو العزة والجلال:
إخوتي الكرام إذا أمرنا الله بأمر فالواجب علينا أن نقوم بذلك الأمر وبما يستلزمه ذلك الأمر ، وإذا حرَّم الله علينا أمراً فالواجب علينا أن نترك ذلك الأمر وأن نترك ما يؤدي إلى ذلك الأمر الذي حرَّمه الله علينا ، وعندما حرَّم الله علينا استعمال فروجنا في غير ما أحل الله لنا من أزواجنا وسرارينا فإن هذا التحريم يستلزم تحريم النظر إلى ما حرم ربنا لأن النظر بريد الزنا: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (النور:30).
وقد وُجِد في هذه الأمة كما وُجد في الأمم السابقة أُناس يخادعون الله وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون فيحتالون على إبطال ما شرعه الله وعلى إسقاط ما أوجبه الله وعلى تحليل ما حرمه الله بحيل ردية لا تقبل عند رب البرية.
وقد روى شيخ الإسلام أبو عبد الله بن بطة في كتابه تحريم الحيل بسند حسن جيد - والحديث صحيح - عن أبي هريرة أن النبي قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
فاليهود عليهم لعائن ربنا المعبود عندما حرَّم الله عليهم الاصطياد يوم السبت احتالوا على ذلك المحرم بأمرين اثنين:
بالتأويل الخاطئ الجائر ، وبالاحتيال الخبيث الماكر.
أما فريق منهم: - وهم المؤولة تأويلاً باطلاً – قال: إن الله حرَّم علينا أكل الصيد يوم السبت ولم يُحرِّم علينا الاصطياد وعليه نصطاد وندخر لنأكل يوم الأحد فما بعده.
والفريق الثاني: - الذين سلكوا مسلك الاحتيال الماكر – فقد انقسموا إلى قسمين:
فريق منهم: حفر أحواضاً وبركاً بجوار البحر وفتحوا لها طريقاً ليدخل الماء مع السمك يوم السبت ، فإذا امتلأت تلك الأحواض بالسمك وضعوا الحاجز لئلا تعود إلى البحر مرة ثانية.
والفريق الثاني: كان يُمسك السمك من البحر بيديه ثم يربطها بحبل ويدق لها وتداً ويربط هذا الحبل بالوتد ثم يُلقي السمك مرة أخرى في البحر ، فإذا صار يوم الأحد سحب هذا الحبل والسمك فيه فأكله يوم الأحد ، والله جل وعلا يقول في كتابه: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذا يعدون في السبت إذا تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون * وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربهم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين * وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم }.
وقد تقدم معنا عن إمام أهل السنة أنه كان يقول: خطأ وضلال بني آدم منحصر في أمرين اثنين: في تأويل خاطئ ، وقياس فاسد ، والتأويل الخاطئ في الأدلة السمعية ، والقياس الفاسد في الأدلة العقلية ، فإذا جاء وأول النص تلاعب به ، وإذا جاء وأتى بحجج عقلية ففرق بين المتماثلين وسوى بين المختلفين فقاس قياساً فاسداً ، ولذلك قال أئمتنا: إن أهل الضلال يُسفسطون في العقليات ـ والسفسطة: هي المكابرة وجحد حقائق الأشياء ـ ويُقرمطون في السمعيات ـ والقرمطة: هي التلاعب بالمعاني ـ فإذا جاؤوا إلى مسلك السمع سلكوا مسلك القرامطة الباطنية ، واخترعوا للنصوص معاني ما أرادها رب البرية ، وهو التأويل الخاطئ ، وإذا جاؤوا للحجج العقلية أتوا بالأقيسة الفاسدة ، وقد جمع اليهود بين الأمرين ، وقد حذرنا نبينا من ذلك المسلك المشين فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
ولذلك قال الإمام ابن القيم : الحيل المحرمة في شريعة الله هي ما تضمنت إسقاط ما شرعه الله وإبطال ما أوجبه الله وتحليل ما حرمه الله .
إخوتي الكرام:
إن الحيَّل قد انتشرت في الأمة - لاسيما في هذا الزمان - وسلكوا مسلك اليهود اللئام ، إن الربا حرَّمه ربنا علينا فكل ما يؤدي إلى ذلك الأمر المحرم ينبغي أن نمتنع عنه ، وكثير من الناس يحتالون عليه بصور من صور المبايعات لكنها لا تخرج هذا الأمر عن كونه رباً محرماً في شريعة رب الأرض والسماء.
فبيع العينة بيع ؛ لكن الإنسان فيه أراد أن يحتال على الربا فباع سلعة بثمن مؤجل نسيئة بأقساط ، ثم اشتراها من المشتري منه بثمن معجل أقل مما باعها به.
هذه هي صورة العينة ، وهي صورة من صور الربا ؛ لكنها عن طريق الاحتيال ، وقد بيَّن لنا نبينا أن الأمة إذا وقعت في الاحتيال فقد سقطت من عين ذي العزة والجلال. ففي (مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما ، بسند صحيح) من رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال: " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتبعتم الزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم".
تحتالون على ما حرم الله وتخلدون إلى الدنيا وتجرون وراءها ولا تجاهدون في سبيل الله ، إذا اتصفتم بهذه الأمور : لا لله عظمتم ، ولا على الخلق أشفقتم ، فهمُّكم الاستغلال وتحصيل المال - ولو كان عن طريق الاحتيال - ثم بعد ذلك خلود إلى الدنيا ، وإعراض عن إعزاز دين الله عن طريق الجهاد. إذا وقع فيكم ذلك سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ، وما أظن أنه يوجد أمة من الأمم تعاني من الذل والعناء والبلاء ما تعانيه الأمة الإسلامية في هذه الأيام ولا يظلم ربك أحداً.
وهذه المبايعة المحرمة وقع بها بعض الصحابة الطيبين المهتدين عن طريق الخطأ وعدم تعمُّد لما حرَّم رب العالمين ولما نُبِّه إلى ذلك تنبَّه ورجع إلى رشده وصوابه وكل بني آدم خطاء ، والذي وقع في هذه المبايعة بعد وفاة نبينا العبد الصالح زيد بن أرقم فأصدرت في حقه أمنا الجليلة الفاضلة المفضلة أمنا عائشة - رضي الله عنها - حكماً يخلع القلوب ، ولا كفارة لذلك العيب من العيوب إلا أن يتوب زيد بن أرقم إلى علام الغيوب.
والقصة رواها (أحمد ، وعبد الرزاق ، والداراقطني ، والبيهقي في السنن الكبرى ، بسند صحيح) عن أبي إسحاق السبيعي عن زوجه العالية - وهي امرأة معروفة - دخلت على أمنا عائشة - رضي الله عنها - فسألتها فقالت: يا أم المؤمنين: بعت جارية إلى زيد بن أرقم بثمانين درهم إلى عطائه واشترط عليه أنه إذا أراد أن يبيع الجارية فينبغي أن يبيعني إياها ، فبعد فترة أراد أن يبيعها فباعني إياها فاشتريت الجارية منه بستمائة درهم نقداً ، فقالت أمنا عائشة - رضي الله عنها - : يا أم محبة ، بئس ما شريت وبئس ما اشتريت ، أخبري زيداً أن جهاده قد بطل مع رسول الله إلا أن يتوب . فقالت أم محبة: فما كفارته يا أم المؤمنين؟ فقالت: التوبة لرب العالمين {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} ، فالتحايل على الحرام يُحبط العمل عند ذي الجلال والإكرام.
نعم إن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني ، فبيع العينة معاملة ربوية وهو في الظاهر مبايعة شرعية قال الإمام ابن الأثير ولذلك قالت أمنا عائشة - رضي الله عنها - هذا الكلام ، وانتشر بين الصحابة الكرام فلم يُنكر ذلك عليها أحد منهم - رضي الله عنهم - ، وانظروا كلام الإمام الشافعي في كتابه الأم (3/78) وقارنوه بما ذكرت .
إخوتي الكرام:
لو قدِّر أن الإنسان وقع في معصية من معاصي الرحمن فليعترف بتقصيره وليستغفر الله جل وعلا ، أما أن يسلك مسلك التأويل والاحتيال والتبرير فليس هذا من صفة المؤمنين ، ولذلك قال بعض القائلين ونعم ما قال:
وأشربها وأعلمها حراماً وأرجو عفو ربي ذي امتنان .... ويشربها ويزعمها حلالاً وتلك على المسيء خطيئتان
يقول: إذا ابتليت بشرب الخمر فاشربها وقل أنا عاصي لله وأرجو مغفرة الله ورحمة الله ، وإياك ثم إياك أن تحلل الخمر وبالتالي لا ترى أنك مسيء وبذلك تكون قد ارتكبت وزرين: شرب الخمر ، وعدم الاعتراف بالذنب.
*************************
المحبط الثامن: - أكل الحرام:
وأعني بأكل الحرام تناول الحرام ، سواء كان عن طريق الأكل أو الشرب أو اللباس أو السكن أو الأساس ، المقصود أنك تستعمل شيئاً لا يحل لك أن تستعمله وحرمه الله عليك (شراب ، طعام ، لباس ، أساس ، مسكن) كل هذا حصَّلته من طريق غير شرعي ، هذا يُحبط عملك عند الله ، وإن لم ينقض عبوديتك لربك ، وإن لم يجعلك من الكافرين ، لكن العمل لا يُقبل عند رب العالمين ، لا تُقبل الصلاة ولا الصيام ولا يُستجاب الدعاء إذا كان في تلك الأشياء التي تتعاطاها في هذه الحياة حرام ، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا فقال بعد آيات الصيام: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }(البقرة:187).
مُنبِّهاً إلى أننا إذا خالفنا هدي الله جل وعلا في آيات الصيام ، فأكلنا وشربنا ما حرَّم الله علينا في نهار رمضان لا يقبل الله منا الصيام ، وهكذا لو أكلنا الحرام من باب أولى لا يقبل الله منا الصيام ، لأن ترك الحرام آكد في شريعة ذي العزة والجلال من ترك الطعام والشراب في نهار رمضان ، استمع لهذه الدلالة التي استنبطها أئمتنا المفسرون – رحمهم الله – من قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }(البقرة:188). ، قالوا: كأن الله يقول: يا عبادي ، يا من أطعتموني في ترك الشراب والطعام في نهار رمضان ، أطيعوني في ترك الحرام على الدوام ، فإذا تناولتم شراباً وطعاماً في نهار الصيام لا يُقبل الصيام ، وإذا دخل جوفكم أو استعمل بدنكم شيئاً مما حرم الله في شراب أو طعام أو لباس أو سكن أو أساس لا تقبل العبادة عند الله جل وعلا كما لو أكلتم في نهار رمضان }ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون{ تعلمون أن هذا حُرِّم عليكم ، لا يجوز أن تأكلوا الأموال بالباطل ، ولا يجوز أن تدفعوا الرشوة إلى الحكام ليحكموا لكم بالباطل الذي حرمه الرحمن ، فإذا فعلتم شيئاً من ذلك لن تقبل الصلاة والصيام ولا غير ذلك من عبادات الرحمن ، وهذه الآية جاءت بعد عبادة الصيام .
وفي أثناء عبادة الصيام ذكر الله عبادة الدعاء ثم عقبها بالامتناع عن الحرام في جميع الأوقات وأن من لم يمتنع لن يقبل الله دعاءه ، ولن يقبل صومه ، ولن يقبل سائر عباداته ، فأكل الحرام مُحبط للأعمال عند ذي العزة والجلال.
وقد وضَّح لنا هذا نبينا ففي (مسند أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والدارمي ، والبيهقي في السنن الكبرى وهو صحيح) من رواية أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: " إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }(المؤمنون:51) ، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }(البقرة:172) ، قال أبو هريرة : ثم ذكر رسول الله : الرجل يُطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ".
وقد ثبت في صحيح ابن حبان من رواية جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي قال لكعب بن عجرة: " يا كعب بن عجرة : كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به " . وعند الترمذي وابن حبان من رواية كعب بن عجرة أنه قال: قال لي النبي :" يا كعب: كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به ".
والحديث رواه (أبو يعلى ، والبزار ، والطبراني في معجمه الأوسط ، والبيهقي في السنن الكبرى وإسناده حسن) عن أبي بكر أنه قال سمعت النبي يقول: " كل جسد غذي بالحرام فالنار أولى به".
*************************
المحبط التاسع: - شرب الخمر:
مَن شرب الخمر يحبط عمله أربعين يوماً لا يُقبل عند الله كما أشار إلى هذا نبينا ، فالخمر أم الخبائث ، والخمر مصدر الرذائل ، وهي المصائد والمثبطات التي يثبط بها الشيطان بني الإنسان ، والخمر مفتاح كل شر ، والخمر يحصل بها اغتيال العقل . وقد ذم الله الخمر وعابها في العهد المكي في سورة النحل في قوله جل وعلا: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً إن في ذلك لآية لقوم يعقلون}.
ثم حرمها الله جل وعلا في العهد المدني في العام الثامن للهجرة فاستمرت إباحتها إحدى وعشرين سنة ثم بعد ذلك حُرمت ، وأول ما نزل في ذمها آية النحل.
ثبت ذلك في السنن الكبرى للإمام البيهقي في الجزء 8/297 عن عبد الله بن عباس وعن مجاهد بن جبر - رضي الله عنهم أجمعين - قالا: السكر: هو الخمر قبل تحريمها ، والرزق الحسن هو الطعام ، وقال ابن عباس: إن الله حرَّم بعد ذلك السكر مع تحريم الخمر لأنه منها . ثم في العهد المدني أنزل الله فيها ثلاث آيات في الآية الأولى أخبر الله جل وعلا عن وجود الإثم فيها فقال: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما …}.
ثم أنزل الله جل وعلا آية أخرى في سورة النساء منع الله فيها عباده عن الخمر في أوقات الصلاة: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفورا}.
ثم أنزل الله في تحريمها الآية الثالثة في العهد المدني وهي في سورة المائدة وفيها يقول الله جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون …}.
فالخمر فيها اغتيال للعقل فإذا شربت قطرة منها تظل أربعون يوماً أعمالك حابطة ما تفعله بعد شرب الخمر من صالحات لمدة أربعين يوماً لا يقبل عند رب الأرض والسموات.
ثبت الحديث بذلك في (سنن الترمذي وحسنه ، ومستدرك الحاكم وصححه وأقر التصحيح الإمام الذهبي والإمام المنذري) ولفظ الحديث من رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي قال: " من شرب الخمر لم تُقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد الثالثة لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد في الرابعة لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن تاب لم يتب الله عليه وغضب عليه وكان حقاً عليه أن يسقيه من نهر الخبال" قالوا: وما نهر الخبال؟ قال:" عصارة أهل النار". والحديث أقطع بصحته وأُسأل أمام الله فقد رُوي عن عدة من الصحابة الكرام بروايات متعددة فيه هذا المعنى ومن تلك الروايات رواية عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - وهي في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وابن ماجه ورواها الحاكم في المستدرك وصحح الرواية وأقرها الإمام الذهبي ، ورواها ابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده بنحو اللفظ المتقدم من رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - دون الزيادة التي في آخر الحديث :" فإن عاد الرابعة فتاب لم يتب الله عليه وغضب عليه …" ، وإنما " فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من نهر الخبال من طينة الخبال" قالوا وما نهر الخبال وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال:" صديد أهل النار".
ورواية ثالثة عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - هي في سنن أبي داود وإسنادها حسن لغيره ، ولفظ الحديث عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله :"كل مسكرٍ خمر ، وكل مسكرٍ حرام ، ومن شرب مسكراً بُخست صلاته أربعين صباح ، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يُسقيه من رضغة الخبال. قالوا: وما رضغة الخبال يا رسول الله؟ قال عصارة أهل النار". بُخست: أي انتقصت صلاته وما قبلت عند الله .
وهناك روايات متعددة بهذا المعنى منها رواية أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها - في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير ومنها رواية أصدق هذه الأمة لهجة أبي ذر في المسند ومعجم الطبراني الكبير ومسند البزار وإسناد الروايتين حسن ، ولفظ الروايتين أن النبي قال : " من شرب الخمر غضب الله عليه أربعين ليلة فإن مات مات كافرا ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد كان حقاً على الله أن يُسقيه من نهر الخبال ، قالوا: وما نهر الخبال يا رسول الله؟ قال: عصارة أهل النار".
وإذا غضب الله عليه لن يقبل منه عملا ، وقول نبينا :" فإن مات مات كافراً" كما تقدم معنا في نظائر هذه الأحاديث التي فيها الوعيد الشديد وإطلاق لفظ الكفر على العاصي إما أنه إذا استحل ، وإما أنه كفر دون كفر - والعلم عند الله - أو أنه شابه الكافرين في هذه الخصلة المذمومة ، تأويلات خمسة ذكرها أئمتنا في نظائر هذا الحديث .
*************************
المحبط العاشر: - إسبال الإزار عن الكعبين في حق الرجال في الصلاة ] خيلاء[:
من أسبل إزاره ]خيلاء[ لا يقبل الله صلاته ، وترد عليه صلاته إذا صلى وهو مسبل للإزار ، سواء كان بمفرده أو في الجماعة ، وقد رتب الشارع المطهر على جر الإزار عقوبتين:
الأولى: أن من نزل إزاره عن كعبيه فهو في النار قصد الخيلاء أو لم يقصد.
الثانية: أنه إذا نزل إزاره عن كعبيه خيلاء أو بطراً ورياءً فهو في النار ، ولا ينظر إليه الجبار جل جلاله ، ثم لا تقبل الصلاة بعد ذلك ، وهذا لا ينبغي لإنسان أن يقوله من رأيه ؛ إنما ينبغي أن ينقله عن نبينا ؛ وسأقتصر على حديثين اثنين أختم بهما هذه الموعظة إن شاء الله في تقرير هذا الأمر.
الحديث الأول: رواه أبو داود ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة ، ولفظ الحديث من رواية أبي هريرة ومن رواية بعض أصحاب النبي : [أن رجلا دخل إلى مسجد النبي ، فصلى وهو مسبل إزاره ، فلما انتهى من صلاته جاء إلى النبي وسلم عليه ، فقال له النبي : "اذهب فتوضأ وصلي" . فذهب وتوضأ وصلى ثم سلم على النبي ، فقال له النبي : " اذهب فتوضأ وصلي" . فلما ذهب فكر في نفسه وأن الأمر ليس بسبب وضوئه فقصَّر ثيابه ، ثم جاء إلى مسجد النبي فصلى ، فسكت عنه النبي فقال الصحابة لنبينا : يا رسول الله مالك أمرته بالوضوء ثم سكتَّ عنه قال: " إنه كان يُصلي وهو مسبلٌ إزاره ، ولا يقبل الله صلاة رجل مسبل".
وتقدم معنا أن النبي أمره بالوضوء من أجل أن يكسر نفسه ، لأن الشيطان خُلق من النار ، والنار تطفأ بالماء فلما كان الإزار يزرع في النفس الكبر والخيلاء أمره خاتم الأنبياء بالوضوء ليظهر هذا المعنى الذي حصل في نفسه من جر إزاره ثم قال له :" لا يقبل الله صلاة رجل مسبل".
والحديث الثاني: رواه أبو داود في سننه وأبو داود الطيالسي في مسنده مرفوعاً وموقوفا على عبد الله بن مسعود ورواه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني في معجمه الكبير موقوفاً على عبد الله بن مسعود وإسناد الأثر الموقوف حسن ، ولفظ الأثر أن عبد الله بن مسعود رأى رجلا يصلي وهو مسبل إزاره فقال: [من أسبل إزاره في صلاته فليس من الله في حل ولا حرام] ، وقد ذكر أئمتنا لأثر عبد الله بن مسعود ثلاث معاني:
أولها : أن من جر إزاره في صلاته فحاله كحال من لا يعتقد بتحليل ولا تحريم وصار كأنه من عداد الكافرين الذين لا يعتقدون بتحليل ولا تحريم إنما يفعلون حسبما تهوى أهواؤهم فليس من الله في حل ولا حرم.
الثاني : أن من جر إزاره في صلاته ليس من الله في حل ولا حرام ، أي لا يحله الله ولا يدخله الجنة ولا يحرم عليه النار.
الثالث : أن من جر إزاره في صلاته ليس في حل ولا حرام ؛ أي ليس له من الله في فعل حلال عندما جر إزاره إنما فعل معصية وإثماً ، ولا حرام ؛ أي ليس له احترام ومنزلة عند ذي الجلال والإكرام.
خلاصة الكلام:
لا يقبل الله العمل إلا إذا صدر من تقي قام بحق العبودية لربه على وجه التمام فإن نقض عبوديته لربه فهو من الكافرين ، ولا يُقبل عمله عند رب العالمين ، وإن خدش عبوديته لربه فعمله مردود عليه ، وإن لم يخرج من دائرة العبودية لرب البرية فالله لا يتقبل إلا من المتقين كما قرر ذلك ربنا في كتابه الكريم ، فقال سبحانه وتعالى في سورة المائدة عند حديثه عما جرى بين ولدي أبينا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين}.
يقول سيدنا علي رابع الخلفاء الراشدين كما في كتاب التقوى لابن أبي الدنيا: (لا يُقَلُّ ما تُقُبِل) ثم تلى قول الله: {إنما يتقبل الله من المتقين}. إذا قبل الله عملك هذا له شأن كبير كبير عند الله الجليل.
وثبت عن ثلاثة من الصحابة أولهم فضالة بن عبيد كما في كتاب التقوى لابن أبي الدنيا ، وثانيهم أبو الدرداء كما في تفسير ابن أبي حاتم ، وثالثهم عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم أجمعين - كما في تاريخ ابن عساكر قال هؤلاء الثلاثة كل واحد منهم يقول: لو أعلم أن الله تقبل مني ركعة أو سجدة أو صدقة كان أحب إلي من الدنيا وما عليها ثم تلى كل واحد منهم هذه الآية: {إنما يتقبل الله من المتقين}.
وزاد عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في الأثر المنقول عنه بعد أن تصدق بدرهم قال: لو أعلم أن الله قبل مني صدقة أو سجدة لما كان غائب أحب إلي من الموت ثم تلى: {إنما يتقبل الله من المتقين}.
وتقدم معنا كلام بعض الصالحين أبي يزيد البسطامي أنه كان يقول: والله لو صفت لي تهليلة لما باليت بعدها.
لابد إذاً من تحقيق العبودية على وجه التمام ليُقبل العمل ولا يعني هذا أن يكون الإنسان من المعصومين إنما كما قلت لا ينقض عبوديته لربه وإذا وقع في شيء من المعصية عن طريق الغفلة والذهول والشهوة التي تحجب العقل أحياناً لا أنه يوطن نفسه على ذلك ، لا ثم لا ، والله يقول في كتابه: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجناتٌ تجري من تحتها خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.
فإياك ثم إياك أن توطن نفسك على المعصية وإياك ثم إياك أن تستحل ما حرم الله عليك.
ثبت في سنن ابن ماجه بسند صحيح رجاله ثقات عن ثوبان مولى نبينا والحديث رواه أبو نعيم في الحلية في الجزء 1/177 من رواية سالم مولى أبي حذيفة - رضي الله عنهم - أجمعين أن النبي قال: " لأعلمن أناساً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا ، فيجعلها الله هباءً منثوراً" ، قالوا يا رسول الله: صفهم لنا ، حلهم لنا ، جلهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم؟ فقال : " أما إنهم إخوانكم ، ويأخذون بحظهم من الليل كما تأخذون ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها".
وفي رواية الحلية: " ولكن كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام وثبوا عليه" قال مالك بن دينار : هذا والله هو النفاق. فقام المُعلَّى بن زياد وقبض على لحية مالك بن دينار ، وقال: صدقت أبا يحيى.
اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى بفضلك ورحمتك فأنت الكريم وأنت الأعلى . اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها يا أرحم الراحمين. اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً. (من محاضرات للشيخ عبد الرحيم الطحان على موقعه - بتصرف)
*************************
المحبط الحادي عشر: عقوق الوالدين:
عن عمرو بن مرة الجهني قال جاء رجلٌ إلى النبي فقال يا رسول الله ، شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، وصليتُ الخمس ، وأدَّيت زكاة مالي ، وصُمت رمضان ، فقال النبي : «مَن مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يَعُقًَّ والديه» (صحيح الترغيب) .
فقوله : «ما لم يعق والديه» أفادت هذه الجملة أن الصلوات الخمس وصيام الشهر، وإيتاء الزكاة لا ينفع ذلك صاحبه إذا كان عاقًا لوالديه ، يؤيد ذلك قوله : « ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفًا ولا عدلاً : عاقٌ ، ومنانٌ ، ومكذب بقدر» (صحيح الترغيب والترهيب).
بِرُّ الوالدين فريضة لازمةٌ ، وفضيلة جازمة ، وجُوبها حتمٌ ، وأداؤها عزم ، لا عذر لأحد في التساهل بها ، والتهاون بشأنها ، فإحسان الوالدين سابق ، وفضلهما عظيم ، فليس أعظم إحساناً ولا أكثر فضلاً بعد الله سبحانه وتعالى من الوالدين ، لله سبحانه نعمة الخلق والإيجاد ، وللوالدين بإذنه نعمة التربية والإيلاد يقول ابن عباس - رضي الله عنهما - ثلاث آياتٍ مقروناتٌ بثلاث لا تقبل واحدةٌ بغير قرينتيها }أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ{ (النساء) ، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يُقبل منه ، }وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ{ (البقرة) ، فمن صلى ولم يزكِّ لم يُقبل منه ، }أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ{ (لقمان) ، فمن شكرَ الله ولم يشكرْ لوالديه لم يُقبل منه ، فرِضى الله في رضى الوالدين ، وسخط الله في سخط الوالدين ، نهى سبحانه وتعالى عن أدنى مراتب الأذى ، نبه به على ما سواه فقال سبحانه:}وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا{ (الإسراء).
ألا وإنَّ من العار والشنار والويل والثبور أن يُفجأ الوالدان بالتنكر للجميل ، كانا يتطلعان للإحسان ، ويؤملان الصلة بالمعروف ، فإذا بهذا المخذول ، قد تناسى ضعفه وطفولته ، وأُعجبَ بشبابه وفتوَّته ، وغَرَّهُ تعليمُه وثقافتُه ، يؤذيهما بالتأففِ والتبرم ، ويجاهرهما بالسوءِ وفُحش القولِ ، يقهرُهما وينهرُهما بل ربَّما لطمَ بكفٍ أو رفسَ برجلٍ ، يريدان حياته ، ويتمنى موتهما ، وكأني بهما قد تمنيا أن لو كانا عقيمين ، تئن لهما الفضيلةُ ، وتبكي من أجلهما المروءةُ ، فيا من كان حاله كذلك }هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ{ (الرحمن) ، يا من كان هذا حاله أين أنت من قول الجبار سبحانه:} وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ{ (الأحقاف).
أيها العاق: أما علمت أن عقوق الوالدين من أكبر كبائر الذنوب؟ فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائرِ ؟ ثلاثًاً ، قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الإشراكُ باللهِ ، وعقوقُ الوالدين - وكان متكئًا فجلس – فقال: ألا وقولُ الزور ، وشهادةُ الزور» فمازال يُكرِّرها حتى قلنا لَيْتَهُ سَكَتَ (متفق عليه).
أيها العاق: أما علمت أنَّ الله لا ينظر إلى العاق يوم القيامة ، قال : «ثلاثةٌ لا ينظرُ الله إليهم يومَ القيامةَ: العاقُّ لوالديه ، ومدمنُ الخمرِ ، والمنَّانُ عطاءَه» (صحيح الترغيب).
أيها العاق: أما علمت أنَّ الله حرَّم الجنَّة على العاق ، قال : «ثلاثةٌ حرَّمَ الله تبارك وتعالى عليهم الجنةَ: مدمن الخمرِ ، والعاق ، والديوث الذي يقرُّ الخبث في أهله» (صحيح الترغيب).
أيها العاق: أما علمت أنَّ دعاءَ الوالدين مستجاب ، قال : «ثلاثُ دعواتٍ مُستجابات لهنَّ ، لا شكَّ فيهنَّ ، دعوةُ المظلومِ ، ودعوةُ المسافر ، ودعوةُ الوالدِ على وَلَدِه» (صحيح الجامع).
أيها العاق: أما علمت أنَّ عقوبة العقوق مُعجلة ، قال : «ما من ذنب أجدر أن يُعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخرُه له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (صحيح الجامع).
فمن برَّ بوالديه برَّ به بنوه ، ومن عقَّهما عقوه ، ولسوف تكونُ محتاجًا إلى بر أبنائك ، وسوف يفعلون معك كما فعلتَ مع والديك ، وكما تدينُ تدانُ ، والجزاءُ من جنس العمل.
فاتقوا الله أيها الأبناء ، وبادروا للبرِّ بوالديكم مهما كانت الأحوالُ ومهما كان على الأبوين من تقصير ، فبرهم واجبٌ ، والإحسان إليهم مُتعين ، قال الله تعالى:}وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا{ (لقمان).
واعلم أيها الابن مهما فعلت في بر الوالدين والإحسان إليهما فلن تقوم بواجبهما أو توفِّ حقوقهما فقد قال : «أنت ومالك لأبيك» (صحيح الجامع). وقال : «وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من دُنياك فاخرج لهما» (الإرواء).
لقي ابن عمر - رضي الله عنهما - رجلاً في المطاف يحمل أمه على ظهره يطوف بها ، فقال يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال ولا بزفرةٍ واحدة.
الله أكبر ، ما أعظم الحق ، وما أشد تقصير الخلق ، ولله در القائل:
إن للوالدين حــــقًاً علينا بعد حقِّ الإله في الاحترام
أَوْلَدَانَا وربيانا صغارًا فاســــــتحقا نهاية الإكرام
فحق على كل من كان مقصرًا في حق والديه أو أحدهما أن يبادر من الآن فيطبع قبلة حارةً على جبين أبيه أو أمه ، ويندم على ما مضى ، ويعتذر عما سلف قبل فوات الأوان ، قبل }أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ{ (الزمر) ، وحسب العاق نكدًا وخسرانًا أن يبوءَ بسخط الله ويُحرم من رضاه ، قال : «رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما ، فلم يدخل الجنة» (رواه مسلم) .
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ (إبراهيم). (المحبط الرابع من محبطات الأعمال – إعداد/ عبده الأقرع – مجلة التوحيد - بتصرف).
*************************
المحبط الثاني عشر: قطيعة الرحم:
عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله قال : «إنَّ أعْمالَ بني آدَم تُعْرضُ كلَّ خميس ليلَةَ الجُمعة ، فلا يُقبل عملُ قاطِع رحم» (صحيح الترغيب).
وقرنت الرحم بحقِّ الله تعالى في التقوى ، قال الله تعالى:} وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ{ (النساء). وقرن الله الأمر بتوحيده والنهي عن الإشراكِ بالإحسان إلى الوالدين والأقربين ، قال تعالى:} وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى{ (النساء).
وبصلة الرحم أمر الله من سبقنا من الأمم ، وهي من الميثاق الذي أُخذ على بني إسرائيل }وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُون{ (البقرة).
فرحم الإنسان هم أولى الناس بالرعاية وأحقهم بالعناية ، وأجدرهم بالإكرام والحماية ، وإذا فُقد ذلك ، تقطعت الأوصال التي حذّر الله من قطعها ، فقال سبحانه:}وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار{ (الرعد).
فقطيعة الرحم شؤمٌ وخرابٌ ، وسببٌ للعنة وعمى الأبصار قال تعالى:}فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ{ (محمد) ،
وقد تكفل الله للرحم بأن يصل من وصلها ويقطع من قطعها فعن عائشة - رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله : «الرحمُ مُعلقةٌ بالعرشِ تقولُ مَن وصلني وصلهُ الله ، ومن قطعني قطعهُ الله» (متفق عليه) ، وعن عبد الرحمن بن عوف قال سمعت رسول الله يقول : « قال الله : أنا الله ، أنا الرحمن ، خلقتُ الرَّحم ، وشققتُ لها اسمًا من اسمي ، فمن وصلها وصلتُه ، ومن قطعَها قطعته ، أو قال بَتَتُّهُ» (صحيح الترغيب) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم ، فقالت هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعةِ ، قال نعم ، أما ترضينَ أن أصل من وصلكِ ، وأقطع من قَطَعَكِ؟ قالت بَلَى ، قال فذلك لك ، ثم قال رسول الله: «اقرؤوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم محمد » ، (صحيح الترغيب) . وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله يقول: «إن الرحم شُجنة من الرحم تقول يا ربِّ إني قُُطعت ، يا رب إني أُسيء إليَّ ، يا رب إنِّي ظُلمت ، يا رب ، يا رب ، فيجيبُها: ألا ترضين أن أصِلَ مَنْ وصَلَكِ ، وأقطعَ مَنْ قَطعَكِ» (البخاري ، ومسلم). معنى «شجنة» أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق وأفرع الشجرة . وعن أنس عن النبي أنه قال: «الرحم حَجنة متمسكة بالعرش ، تكلم بلسان ذلق: اللهم صِلْ مَنْ وصلني ، واقطع من قطعني » فيقولُ الله تبارك وتعالى: أنا الرحمنُ الرحيمُ ، إني شَقَقْتُ للرحمِ من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن بتكها بَتَكْتُه» (صحيح الترغيب) وقوله: «من بتكها بتكته» أي زمن قطعها قطعته .
وقد أخبر رسول الله أن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب ، وعقوبتها معجلةٌ في الدنيا قبل الآخرة
عن أبي بكرة قال: قال رسول الله «مَا مِنْ ذنبٍ أجدرُ أن يعجِّلَ اللهِ لصاحِبِه العقوبةَ في الدنيا مع ما يدخرُ له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (البخاري ، ومسلم) ، وأخبر أن قاطع الرحم لا يدخل الجنة فعن أبي محمد جُبَير بن مطعم أن رسول الله قال: «لا يدخل الجنة قاطع» (البخاري ، ومسلم).
وعن سعيد بن زيد عن النبي ، أنه قال: «إنَّ مِن أربى الربِّا الاستطالة في عِرْضِ المسلم بغير حق ، وإن هذه الرحم شجنةٌ من الرحمنِ فمن قطعها حرَّم عليه الجنة» (صحيح الترغيب).
وفي المقابل بيَّن رسول الله أن صلة الرحم من أسباب دخول الجنة فعن أبي يوسف عبد الله بن سلام قال سمعت رسول الله يقول «يا أيها الناسُ ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيامٌ ، تدخلوا الجنة بسلام» (صحيح الترمذي ، وصحيح الجامع ، والصحيحة).
وبين رسول الله أن صلة الرحم ، محبةٌ في الأهل ، ومثراةٌ في المال ، ومنسأةٌ في الأثر ، وبركةٌ في الرزق ، وتوفيق في الحياة ، وعمارةٌ للديار ، يكتب الله بها العزة ، وتُملأ بها القلوب إجلالاً وهيبة ، فعن أنس أن رسول الله قال: «مَن أحبَّ أن يبسط له في رزقه ، ويُنسأَ له في أثره ، فلْيصِلْ رحمه» (متفق عليه). وعن عائشة - رضي الله عنها - أنَّ النبي قال لها: «إِنَّه من أعطي حَظه من الرفق ، فقد أُعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ، وصلة الرحم وحسن الجوار ، أو حُسن الخُلق يعمر الديار ، ويزيدان في الأعمارِ» (صحيح الترغيب). وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله : «إنَّ أهلَ البيتِ ليكونون فجَرَةً ، فتنموا أموالهم ، ويكثر عددهم إذا تواصلوا» (صحيح الترغيب).
وبيَّن رسول الله أن الصدقة على الرحم ثوابها مبرور ، وأجرُها مضاعف ، فعن سلمان بن عامر عن النبي قال: «الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» (صحيح الجامع ، والمشكاة ، وصحيح الترغيب). وعن أم كلثوم بنت عقبة - رضي الله عنها - أن النبي قال: «أفضلُ الصدقةِ على ذي الرحم الكاشح» (صحيح الجامع ، والإرواء ، وصحيح الجامع). يعني أن أفضل الصدقة الصدقةُ على ذي الرحم المضمر العداوةَ في باطنه ، وهو في معنى قوله: « وتَصِلُ من قطعك» .
وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها - أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي ، فلما كان يومها الذي يدورُ عليها فيه ، قالت يا رسول الله ، إني أعتقتُ وليدتي؟ قال: «أو فعلت؟» قالت: نعم قال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» (متفق عليه).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله : «ليس الواصلُ بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها» (البخاري في الأدب باب ليس الواصل بالمكافئ). وعن أبي ذر قال: «أوصاني خليلي بخصالٍ من الخير ، أوصاني أن لا أنظر إلى من هو فوقي ، وأن أنظر إلى ما هو دوني ، وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم ، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت ، وأوصاني لا أخاف في الله لومة لائم ، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرًا ، وأوصاني أن أكثر من «لا حول ولا قوة إلا بالله» ، فإنها كنزٌ من كُنوز الجنة» (صحيح الترغيب). (المحبط الخامس من محبطات الأعمال – إعداد/ عبده الأقرع – مجلة التوحيد - بتصرف).
*************************
أحمدى العدوى- تقني متميز
- عدد المساهمات : 49
نقاط : 81
تاريخ التسجيل : 04/05/2009
رد: التذكير بمحبطات الأعمال
المحبط الثالث عشر: أذى الجار:
عن أنس بن مالك قال نَزَلَ بالنبي أضيافٌ من البحرين فدعا النبي بوضوئه فمسحوا منه وجوههم ورءوسهم وصدورهم ، فقال لهم النبي : «ما دعاكم إلى ذلك ؟» قالوا حُبُّنَا لك ، لعل الله يحبنا يا رسول الله ، فقال: «إن كنتم تريدون أن يحبكم الله ورسوله فحافظوا على ثلاث خصال: صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وحُسن الجوار ، فإن أذى الجار يمحو الحسنات كما تمحو الشمس الجليد» (الصحيحة) .
وقد شاع بين ضعاف النفوس الإساءة إلى الجار ومضارته ، وتناسى الكثير حقوق الجار وعظم حقه وأن الله تعالى قد أوصى بالجار من فوق سبع سماوات ، فقال تعالى :}وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا{ (النساء:36) ، وتناسى الكثير أن إيذاء الجيران من مبطلات الأعمال الصالحة ومحبطات أجرها وثوابها كما أخبر بذلك رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى ، فقال رسول الله : « فإن أذى الجار يمحو الحسنات كما تمحو الشمس الجليد».
- وقد عظَّم الإسلام حق الجار فعن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم – قالا: قال رسول الله : « ما زال جبريل - عليه السلام - يُوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورِّثه » (متفق عليه) ، وعن رجل من الأنصار قال خرجتُ مع أهلي أريدُ النبي ، وإذا أنا به قائم ، وإذا رجلٌ مقبلٌ عليه ، فظننت أن لهما حاجة ، فجلست ، فوالله لقد قام رسول الله حتى جعلت أرثي له من القيام ، ثم انصرف ، فقمت إليه ، فقلت يا رسول الله ، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام قال: «أتدري من هذا ؟» قلت: لا ، قال: « ذاك جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ، أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام » (صحيح الترغيب).
- ونفى رسول الله الإيمان عن الذي لا يأمن جاره شره فعن أبي هريرة أن رسول الله قال « والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن » قيل: مَن يا رسول الله ؟ قال: « الذي لا يأمن جاره بوائقه» (متفق عليه) ، وعن أبي شريح الكعبي قال: قال رسول الله : « والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن » قيل: يا رسول ، لقد خاب وخسر، من هذا ؟ قال: «من لا يأمن جاره بوائقه» قالوا وما بوائقه ؟ قال «شره» (صحيح الجامع) . والذنب يعظم إذا ارتكب في حق الجار ويضاعف إثم صاحبه ، فعن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله لأصحابه « ما تقولون في الزنا ؟ » قالوا حرامٌ ، حرَّمه الله ورسوله ، فهو حرام إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله : «لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» ، قال: « ما تقولون في السرقة؟ » قالوا: حرَّمها الله ورسوله فهي حرام ، قال: « لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات ، أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره » (رواه أحمد).
- وبيَّن أن حسن الجوار يُعمر الديار ، ويزيد في الأعمار فعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله قال: « صلة الرحم ، وحسن الخلق ، وحسن الجوار يعمرن الديار ، ويزدن في الأعمار» (صحيح الجامع).
- وجعل الإحسان إلى الجار عنوان الإيمان: فعن أبي شريح الخزاعي أن النبي قال « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليحسن إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرًا أو ليسكت» (مسلم).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يُعلم من يعمل بهن؟» فقال أبو هريرة: قلت أنا يا رسول الله. فأخذ بيدي فعدَّ خمساً ، فقال: « اتق المحارم تكن أعبد الناس ، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً ، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً ، ولا تكثر الضحك ، فإن كثرة الضحك تُميت القلب» (صحيح الجامع).
- وجعل عدم أذية الجار عنوان الإيمان أيضاً: فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: « مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت» (متفق عليه).
وعن أنس بن مالك أن رسول الله قال: « لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، ولا يستقيم لسانه ولا يدخل الجنة حتى يأمن جاره بوائقه» (صحيح الترغيب).
وعنه قال: قال رسول الله : « المؤمن من أمنه الناس ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر السوء ، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبدٌ لا يأمن جاره بوائقه » (صحيح الترغيب).
وفي هذا دليل على تحريم العدوان على الجار ، سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل ، أما بالقول كأن يسمع منه ما يزعجه ويقلقه ، وإن من شر ما ابتلي به الجيران من جيرانهم رفع صوت المسجل والتلفاز ، فإن هذه الأصوات العالية تشوش على المصلي ، وتؤذي الطالب ، وتزعج المريض ، وهذا لا يحل ، وهل المؤمنُ إلا من أمنهُ الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، وهل الإيمان إلا من الأمن؟ فإذا كان الجار لجاره حرباً ، وعليه ضدًا فكيف يكون من المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله؟ لقد كان الواجب عليه أن يتفقد أمور جاره ، ويساعده بكل ما استطاع ، ويعمل على جلب الخير له ودفع ما يضره ، حتى يكون في عيشة راضية وحياة طيبة ، كما يعمل بعض الجيران المحسنين الذين يألفون ويؤلفون.
- ومن الأذية بالقول: أن تؤذيه بالسب وغير ذلك فإن ذلك يُحبط الأعمال : فعن أبي هريرة قال: قال رجلٌ يا رسول الله ، إن فلانة يُذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها ، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها . قال: « هي في النار» ، قال يا رسول الله : فإن فلانة يُذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها وأنها تتصدق بالأتوار من الأقط ، ولا تؤذي جيرانها بلسانها قال: "هي في الجنة". (صحيح الترغيب) ، الأتوار : جمع تور ، وهي القطعة من الأقط ، والأقط : هو شيء يتخذ من مخيض اللبن الغنمي ، أو هو اللبن المجفف . فاصبر على جارك السوء وصابر واحذر أن يضيق صدرك عليه فتؤذيه بلسانك فيحبط عملك.
- وأما بالفعل: فيكون بمضايقته في بناء أو ممر أو بميزاب يصب عليه ، أو بقذر أو وسخ تلقيه أمام منزله ، أو إغلاق الباب دونه ، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله : «كم من جار متعلق بجاره يقول يا رب ، سل هذا لم أغلق عني بابه ومنعني فضله» (صحيح الترغيب).
فاحذر كل الحذر أن تؤذي جارك بقول أو فعل وحسبك أن شهادة جارك بالخير من أسباب مغفرة الذنوب ، قال : « ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون عنه إلا خيرًا ، إلا قال الله تبارك وتعالى قد قبلت قولكم ، أو قال شهادتكم ، وغفرت له ما لا تعلمون» (أحمد).
ويعرف المسلم نفسه إذا كان قد أحسن إلى جيرانه ، أو أساء إليهم ، فعن ابن مسعود قال: قال رجلٌ للنبي : يا رسول الله ، كيف لي أعلم إذا أحسنتُ أو أسأتُ ؟ فقال النبيُّ : «إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت ، فقد أحسنت ، وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت ؛ فقد أسأت» (صحيح الجامع) .
فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بإهداء ما تيسر ، وبداءته بالسلام والصفح عن زلاته ، وإظهار البشر له ، وعيادته وتعزيته عند المصيبة وتهنئته بما يفرحه ، ويستر ما انكشف له من عورة ، ويغضُّ بصره عن محارمه ، ويمنع أولاده وأهله من أذية أولاد جاره وأهلهم ويعمل كل ما فيه نفعٌ لهم ويقدر عليه ، ويدفع عنهم ما يضرهم ما استطاع ، فبهذه الأشياء تقع - بإذن الله - الألفة والمحبة ، وبها تحصل المودة ويصبحُ المرء بين جيرانه محبوبًا موقِّرًا يتفقدونه إذا غاب ويسألون عنه ، وحسب المسلم أن الصبر على أذى الجار يجلب لصاحبه محبة الله ورسوله ، فعن عبد الرحمن بن أبي قراد قال: قال رسول الله : «إن أحببتم أن يحبكم الله تعالى ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم ، واصدقوا إذا حدثتم ، وأحسنوا جوار من جاوركم» (صحيح الجامع) . وقال ابن عبد البر: ثلاثٌ إذا كن في الرجل لم يشك في عقله وفضله: «إذا حمده جاره وقرابته ورفيقه» .
فاطلب لنفسك جيرانًا تُسرُّ بهم ..... لا تصلح الدار حتى يصلح الجارُ
وحسبك قول ابن مسعود لرجل أتاه وقال له إن لي جارًا يُؤذيني ويشتمني ويُضيق عليَّ فقال له: اذهب ، فإن عصى الله فيك فأطع الله فيه ، وقول الحسن: ليس حُسن الجوار كف الأذى ، ولكن حسن الجوار احتمال الأذى. (جامع العلوم والحكم) . (المحبط السادس من محبطات الأعمال – إعداد/ عبده الأقرع – مجلة التوحيد - بتصرف).
*************************
المحبط الرابع عشر: الذهاب إلى العرافين:
عن بعض أزواج النبي ، عن النبي قال : « من أتى عرافاً ، فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً» (مسلم).
قال البغوي: العراف الذي يدَّعي معرفة الأمور بمقدماتٍ يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. (شرح السنة). وقال ابن تيمية: العَرَّافُ: اسم للكاهن والمنجم والرمَّال ونحوهم. (مجموع الفتاوى) .
ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يومًا ، ولكنه ليس على إطلاقه ، فسؤال العرَّاف ، ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول: أن يسأله سؤالاً مجردًا ، فهذا حرام ؛ لقول النبي : « من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا» . فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه ، إذ لا عقوبة إلا على فعل محرّم .
القسم الثاني: أن يسأله ويصدقه فهذا كفر ، ففي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد» (صحيح الجامع). أي بالذي أُنزل على محمدٍ ، والذي أُنزل عليه القرآن ، أُنزل إليه بواسطة جبريل عليه السلام ، قال الله تعالى: }وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ{ (الشعراء: 192- 193) ، وقال تعالى: }قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ{ (النحل:102) ، وقد قال الله تعالى :}قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ{ (النمل:65) . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «مَن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول ، أو أتى امرأة حائضًا ، أو أتى امرأة في دبرها ، فقد برئ مما أُنزل على محمد» (صحيح الجامع). وعن عمران بن حصين أن النبي قال: «ليس منا من تطير ولا من تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو تسحر أو تسحر له» (صحيح الجامع).
القسم الثالث: أن يسأله ليختبره هل هو صادق أو كاذب ، لا لأجل أن يأخذ بقوله ، فهذا لا بأس به ، وقد سأل النبي ابن صياد ، فقال «ماذا خبأت لك؟» قال: الدُّخ ، فقال: «اخسأ ، فلن تعدو قدرك» (متفق عليه) ، فالنبي سأله عن شيء أضمره له ، لأجل أن يختبره ، فأخبره به .
القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه ، فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه ، وهذا مطلوب ، وقد يكون واجبًا ، وإبطال قول الكهنة لا شك أنه أمرٌ مطلوب ، وقد يكون واجبًا. (القول المفيد على كتاب التوحيد) . فتصديق أدعياءِ عِلْمِ الغيب ، وإتيانُ الكهنةِ والعرافين ، والرمالين والمنجمين ، والمشعوذين ، والدجالين ، الذين يزعمون الإخبار عن الغيبيات زورًا وبهتانًا ، وكذبًا وادِّعاءً ، فهذا كله ضلال وباطل ، وداءٌ خطيرٌ وشر مستطيرٌ ، فعلم الغيب ، مما استأثر الله به وحده ، قال سبحانه: «قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ» (النمل:65).
وفي تعاطي السحر والتعامل به جمعٌ بين الكفر والإضرار بالناس: قال الله تعالى: }وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (البقرة:102). فدلت هذه الآية الكريمة على أن الذين يتعلمون السحر إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، وأنه ليس لهم عند الله من خلاق ، أي «من حظ» ، وهذا وعيد عظيم يدل على شدة خسارتهم في الدنيا والآخرة ، وأنهم باعوا أنفسهم بأبخس الأثمان ، ولهذا ذمهم الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: }وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{ (البقرة:102) ، ولقد نفى الله الفلاحَ عن الساحر ، فقال سبحانه: }وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى{ (طه:69) ، أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض .
السحر من الموبقات ، أي المهلكات: فعن أبي هريرة عن النبي قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا يا رسول الله ، وما هن ؟ قال: «الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» . فعدَ رسول الله السحر بعد الشرك وقبل القتل . ومعنى «التولي يوم الزحف» أي الفرار من صف القتال يوم زحف المسلمين على العدو ، ومعنى «المحصنات» أي العفيفات ، قال الله تعالى:}إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{ (النور:23).
والكهنة والعرافون يتعاملون مع الشياطين يقيناً ، ولا يساعد الشيطان قرينه الآدمي إلا إذا أصبح وليًا له ، قال الله تعالى : }هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ{ (الشعراء) ، وقال تعالى:}وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ{ (الأنعام:21).
فحذار أيها المسلم حذار من ذهابك أو ذهاب زوجتك أو ولدك أو بعض أهلك للكهنة وسؤالهم إياهم ، فإنَّ هذا صد عن الدين ، وقد علمتَ أن الله عز وجل لم يقبل صلاة أربعين يومًا لمن يسأل العراف أو الكاهن ، وحَكَم رسول الله بكفر من يسأله ويصدقه ، فما بالك بالعراف نفسه ؟ . عن معاوية بن الحكم قال: قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية ، وقد جاء الله تعالى بالإسلام ، وإنَّ منا رجالاً يأتون الكهان؟ قال «فلا تأتهم» (مسلم).
شبهة وجوابها:
قد يقول بعض الناس: إننا جربنا سؤال هؤلاء العرافين فوجدناهم يصدقون في حديثهم عن بعض الأمور.
والجواب: أن رسول الله أخبر بذلك ، فعن عائشة - رضي الله عنها – قالت: سأل رسولَ الله أناسٌ عن الكهان ، فقال: «ليسوا بشيء» ، فقالوا يا رسول الله ، إنهم يحدثوننا أحيانًا بشيء فيكون حقًا ؟ فقال رسول الله : «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أُذُن وليه ، فيخلطون معها مائة كذبة» (متفق عليه) ، معنى فيقرها: أي يلقيها.
وفي رواية للبخاري عن عائشة - رضي الله عنه - أنها سمعت رسول الله يقول: «إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قُضي في السماء ، فيسترق الشيطان السمع ، فيسمعه ، فيوحيه إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم» (صحيح الجامع) .
فالساحر دَعِيّ كذابٌ ولو طار في الهواء ، ومشى على الماء ، ولَبَّس على الجهلة والدهماء فأين عقولنا ؟ ماذا أصاب العقول ؟ إذا كان صفوةُ خلق الله ، وأفضل عباد الله يخاطبه الله بقوله سبحانه: }قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{ (الأعراف:188).ونهاه سبحانه بقوله: }وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ (يونس:107) ، إذا كان ذلك في حقه فغيره أولى وأحرى أن يحذر من ذلك }ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ{ (الحج:62) فكونوا على حذر يا عباد الله من المشعوذين والدجالين ، وعلقوا آمالكم بالله فهو سبحانه دافع الضر ومالك النفع ، له الأمر كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، قضاؤه نافذٌ ، وقدره كائن ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، ولا راد لما قضى ، ولا واصل لما قطع: }قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ{ (الزمر:38).
يا مَن ألوذ به فيــــــــــــما أؤَمِّلُهُ .... ومن أعـــــــــوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره .... ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
وإذا كان الابتلاء سنة والبشر عرضةً للأمراض والأسقام فإنَّ التداوي المشروع أمرٌ مطلوب ، فعن جابر قال: قال رسول الله : « لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى » (مسلم) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « ما أنزل اللهُ داءً إلا أنزل له شفاءً » (صحيح الجامع) ، وعن أسامة بن شريك أن النبي قال : « تداوَوْا عباد الله ، فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواء ، غير داءٍ واحدٍ الهرم » وهو الشيخوخة (صحيح الجامع ، وغاية المرام) .
فالتداوي المشروع لا ينافي التوكل على الله ، وقد أخبر الله عن القرآن بأنه هدى وشفاء من كل مرض وداء ، فقال تعالى: }وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ{ (الإسراء:82) ، وقال تعالى: }قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ{ (فصلت:44) ، وقال تعالى:}وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا{ (النساء:87).
فحصنوا أنفسكم وأولادكم بالرقى المشروعة ، والأوراد المأثورة ، فهي حصنٌ حصينٌ ، وحرزٌ أمين بإذن الله الشافي الرحيم ، داوموا على أوراد الصباح والمساء ، وأدعية الدخول والخروج ، والنوم والاستيقاظ ، وهاكم عباد الله وصفةً طبيةً نبوية ، هي خيرٌ لكم وأمانٌ ، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله : «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ، ومساء كل ليلة "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات" ، فيضره شيء» (صحيح الجامع). وعن عبد الله بن خبيب قال: قلت لرسول الله ماذا أقول؟ قال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، والمعوذتين حين تُمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء». (صحيح الجامع).
وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله «مَن تصبَّح كل يوم سبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر» (البخاري ، ومسلم) . وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله قال : «إن في عجوة العالية شفاء ، وإنها ترياقٌ من أول البكرة» (صحيح مسلم). و«العالية» المقصود بها عالية المدينة ، وجمعها عوال ، وهي مكان في الجهة الجنوبية من المدينة وأدناها إلى المسجد النبوي يبعد ميلاً «الترياق» ما يستعمل لدفع السم من الأدوية والمعاجن
«أول البكرة» المراد( أكلها في الصباح قبل أن يأكل أي شيء آخر). (المحبط التاسع من محبطات الأعمال – إعداد/ عبده الأقرع – مجلة التوحيد - بتصرف).
***************************
المحبط الخامس عشر: فعل عبادة مؤقتة بوقت بعد خروج وقتها:
فكل عبادة شرع الله لها وقتاً معيناً لا يقبلها ممن فعلها بعد وقتها ، فلا يؤجر على فعلها بل يأثم على تأخيرها ، ومن ذلك:
1- الصلوات المفروضة: فإن الله فرضها بأوقات محددة كما قال تعالى :}إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا{ ، وقد حدد جبريل – عليه السلام – لنبينا - أوقاتها وبيَّنها النبي لأمته ، فمن أدَّاها بعد خروج وقتها – لغير عذر شرعي كالجمع لما يشرع جمعه – فهي غير مقبولة بل وصاحبها متوعد بالمعاقبة على فعلها في غير وقتها كما في قوله تعالى: }فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ{ قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله – في تفسيره : }فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ{ . قال ابن عباس ، وغيره: يعني المنافقين ، الذين يُصلون في العلانية ولا يُصلون في السر. ولهذا قال: لِلْمُصَلِّينَ. أي: الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها ، ثم هم عنها ساهون ، إما عن فعلها بالكلية ، كما قاله ابن عباس ، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعاً ، فيُخرجها عن وقتها بالكلية ، كما قاله مسروق ، وأبو الضحى.. ا هـ
وسئل الشيخ ابن عثيمين: بارك الله فيكم ، في سؤاله الأخير يقول: ما معنى قوله تعالى :}فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون{؟ .
فأجاب – رحمه الله - : ويل هذه كلمة وعيد وتهديد ، والمصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون: هم الذين يصلون ولكن لا يُبالون بصلاتهم ، يغفلون عنها فيؤخرونها عن وقتها ، ولا يأتون بواجباتها وأركانها وشروطها ، فهم يصلون ولكنهم ساهون عن صلاتهم لا يقيمونها على الوجه المطلوب منهم ، وأما الذين يراءون فهم الذين يراءون الناس في عبادة الله يتعبدون لله أمام الناس ليراهم الناس ويمدحوهم على عبادتهم لله عز وجل ، وأما الذين يمنعون الماعون فهم الذين يمنعون الأواني وشبهها مما يستعيره الناس في العادة والإنسان مستغنيً عنه ، فتجده لبخله يمنع حتى إعارة الماعون ، فوصف الله هؤلاء بأنهم غافلون عن صلاتهم مراءون في عباداتهم بخلاء في أموالهم ، نعم .(فتاوى نور على الدرب) .
وكقوله تعالى :} فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا { (مريم:59)
قال ابن كثير في تفسيره: .... وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا ، فقال قائلون : المراد بإضاعتها تركها بالكلية ، قاله محمد بن كعب القرظي ، وابن زيد بن أسلم ، والسدِّي ، واختاره ابن جرير . ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة - كما هو المشهور عن الإمام أحمد ، وقول عن الشافعي - إلى تكفير تارك الصلاة ، للحديث: " بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة " ، والحديث الآخر: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " وليس هذا محل بسط هذه المسألة .
وقال الأوزاعي ، عن موسى بن سليمان ، عن القاسم بن مخيمرة في قوله فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة) ، قال : إنما أضاعوا المواقيت ، ولو كان تركا كان كفرا .
وقال وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، والحسن بن سعد ، عن ابن مسعود أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن:} الذين هم عن صلاتهم ساهون { و }على صلاتهم دائمون{ و}على صلاتهم يحافظون{ ؟ قال ابن مسعود : على مواقيتها . قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على الترك ؟ قال : ذاك الكفر .
وقال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس ، فيُكتب من الغافلين ، وفي إفراطهن الهلكة ، وإفراطهن : إضاعتهن عن وقتهن .
وقال الأوزاعي ، عن إبراهيم بن يزيد : أن عمر بن عبد العزيز قرأ: ) فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) ، ثم قال : لم تكن إضاعتهم تركها ، ولكن أضاعوا الوقت . .أ هـ .
ويقع في هذا الخطأ :
أ- من يصلي المغرب متأخراً قبل أذان العشاء بوقت قليل – حسب التقويم - ، وذلك لأن وقت العشاء في التقويم متأخر عن غياب الشفق – الذي هو وقت دخول العشاء – بنحو ثلث إلى نصف ساعة – مثلما تقدم وقت الفجر ، فإن الوقت بين طلوع الفجر وشروق الشمس مساوي للوقت بين غروب الشمس وغياب الشفق ، وهو ساعة واحدة تقريباً كما قال الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله - ، وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي تقدير ذلك ساعة أو ساعة وعشر دقائق تقريباً.( فتاوى منوعة-2) . ولي رسالة في هذا الموضوع بعنوان "القول القويم في الصلاة حسب التقويم" لمن أراد الاستزادة.
ب- من يصلي العشاء بعد منتصف الليل ، لأن وقت العشاء ينتهي عند منتصف الليل .
ج- من يؤخر صلوات النهار حتى يعود إلى بيته ويصليها جميعاً ليلاً .
د- من يترك قضاء الفوائت التي نسيها – أو نام عنها من غير تفريط – إلى وقتها من الغد .
هـ - من يؤخر الصلاة حتى ينزل من وسيلة المواصلات مما يُفوِّت وقتها: – ما لم تكن مما تجمع ونوى جمعها - ، والواجب عليه أن يُؤخِّر الركوب حتى يصلي ، أو يصلي وهو راكب حسب استطاعته ولا يؤخر الصلاة عن وقتها. (بتصرف من الملخص الفقهي للفوزان) .
ز- من يترك الصلاة من المرضى ومن تجرى لهم عمليات جراحية: بحجة أنهم لا يقدرون على أداء الصلاة بصفة كاملة ، أو لا يقدرون على الوضوء ولا التيمم ، أو لأن ملابسهم نجسة ، وغير ذلك من الأعذار ، وهذا خطأ كبير بل على المسلم أن يصلي الصلاة في وقتها على حسب استطاعته. (الملخص الفقهي للفوزان – بتصرف-) .
ح- من يترك الصلاة حتى يخرج وقتها لعدم وجود ماء للوضوء ولا تراب للتيمم ، والصواب أن فاقد الطهورين يصلي بغير طهارة ، ويسقط عنه شرط الطهارة لعجزه .
2- زكاة الفطر في رمضان: فإن وقتها ينتهي بصلاة العيد ، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " فرض رسول اللَّه زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"(حسن: صحيح ابن ماجه: 148) أي أنها غير مقبولة كزكاة فطر .
3- ذبح الأضاحي: فهي عبادة مؤقتة يبدأ وقتها بعد صلاة العيد وينتهي بغروب شمس ثالث أيام التشريق فمن ذبحها في غير وقتها لم تقبل منه ،
قال الشيخ ابن عثيمين في (أحكام الأضحية والذكاة – 3) : ليس المقصود من الأضحية مجرد اللحم للانتفاع أو الصدقة به ، وإنما المقصود بالأضحية إقامة شعيرة من شعائر الله على الوجه الذي شرعه الله ورسوله ، فوجب تقييدها بحسب ما جاء به الشرع ، ولذلك فرَّق النبي بين شاة اللحم وشاة النسك حيث قال : "من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة اللحم أو فهو لحم قدَّمه لأهله ، ومن ذبح بعد الصلاة ؛ فقد أصاب النسك ، أو قال : فقد تم نسكه ، وأصاب سنة المسلمين" ، كما فرَّق في زكاة الفطر بين ما دُفع قبل الصلاة وما دُفع بعدها ، فالأول زكاة مقبولة ، والثاني صدقة من الصدقات ، مع أن كلا منهما صاع من طعام ، لكن لما كان المدفوع قبل الصلاة على وفق الحدود الشرعية ؛ كان زكاة مقبولة ، ولما كان المدفوع بعدها على غير وفق الحدود الشرعية ؛ لم يكن زكاة مقبولة ، وهذه هي القاعدة العامة الشرعية . قال النبي : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ". (رواه مسلم) ، أي : مردود على صاحبه ، وإن كانت نيته حسنة ؛ لعموم الحديث .
*************************
المحبط السادس عشر: فعل طاعة بارتكاب محرم :
بعض الناس قد يحرص على فعل الطاعة بأي وسيلة كانت ، وقد تكون الوسيلة محرمة ، فحينئذ لا تقبل منه طاعته ، ومن أمثلة ذلك :
(1). من يحج الفريضة لكن بمال حرام ، فهذا تسقط عنه الفريضة – أي لا يطالب بإعادتها - لكن لا ثواب له عليها ، لأن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبا ، فمن حج بمال حرام سقطت عنه الفريضة فلا يُعاقب على تركها لكنه لا يُثاب عليها ، ولا تنافي بين سقوط فريضة الحج وعدم قبوله . (من فتاوى دار الإفتاء المصرية قديماً – مجلة التوحيد ذي الحجة 1421هـ).
(2). من تخرج للصلاة في المسجد ولكنها تخرج متطيبة لحديث: " أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد لم تُقبل لها صلاة حتى تغتسل " . (رواه ابن ماجة) . وفي الحديث الآخر : " أيما امرأة استعطرت فمرَّت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية " (رواه أبو داود) .
(3). من يزكي أو يتصدق من كسبٍ حرام ، كمن يعمل في بنك ربوي مثلاً ويخرج زكاة ماله ، وكمن تعمل بالبغاء لتطعم الأيتام ، وفيها قال القائل :
ومُطعمةُ أيتام من كدِّ فرجها ويْحكِ لا تزني ولا تتصدقي .
ويروى أن أبا حنيفة – رحمه الله - رأى رجلاً يسرق تفاحة ، ثم وجده بعدما سرقها يعطيها لمسكين ، فسأله: لماذا سرقتها ثم تصدقت بها؟ ، فقال الرجل : سرقتها فكتبت علي سيئة واحدة ، وتصدقت بها فكتبت لي عشر حسنات ، فأكون قد كسبت تسع حسنات . فقال له أبو حنيفة : لا ، بل سرقتها فكتبت عليك سيئة ، وتصدقت بها فلم يقبلها الله منك .
*************************
المحبط السابع عشر : الكلام والعبث بالمسجد أثناء خطبة الجمعة:
فاللغو بالمسجد أثناء خطبة الجمعة بالكلام ، أو رد السلام ، أو تشميت العاطس ، أو حتى العبث كالتسبيح بالمسبحة أو التسوك وغير ذلك يُبطل ثواب الجمعة ، قال : " " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" . (متفق على صحته). وقال : " من مس الحصى فقد لغا " . (رواه مسلم والترمذي).
ومثل ذلك رفع الصوت بالمسجد أثناء خطبة الجمعة بالدعاء أو الصلاة على النبي أو التأمين على دعاء الخطيب أو التعوذ عندما يسمع شيئاً من الوعيد في الخطبة ، أو بالسؤال والدعاء عندما يسمع شيئاً من ذكر الثواب أو الجنة ، وكل هذا لا يجوز ، وهو داخل في الكلام المنهي عنه حال الخطبة ، الذي يُفسد الأجر ، ويجعل المتكلم لا جمعة له ، ويكون كالحمار يحمل أسفاراً ، للأحاديث الواردة بذلك . فيجب الحذر من ذلك والتحذير منه . (الملخص الفقهي للفوزان ص:156 بتصرف يسير) .
*************************
المحبط الثامن عشر: إمامة القوم وهم له كارهون :
قال : " ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً : رجلٌ أمَّ قوماً وهم له كارهون ، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ، والعبد الآبق حتى يرجع ". (رواه ابن ماجة وحسنه الألباني). ، والعبرة بالكراهية الدينية التي تكون لسبب ديني ، أما الكراهية لإحن ولأمور دنيوية فلا قيمة لها ، بأن يكون الإمام مثلاً مبتدعاً أو فاسقاً داعياً لبدعته أو فسقه ، أو مخالفاً للسنة ، كالحليق والمسبل لإزاره. أما إذا كان الإمام على عقيدة صحيحة وسيرة حسنة فلا يضره ولو كرهه كل المصلين. ( من موقع الدين النصيحة) .
*************************
التاسع عشر: نشوز المرأة على طاعة زوجها :
قال :"اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما : عبد آبق من مـواليه حتى يرجع إليه ، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع ". (رواه الحاكم). وعن جابر عن النبي قال:" ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة ولا تُرفع لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم ، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى عنها ، والسكران حتى يصحو" ، وعن الحسن قال حدثني من سمع النبي يقول:" أول ما تسأل عنه المرأة يوم القيامة عن صلاتها وعن بعلها" ، وقالت عمة حصين بن محصن وذكرت زوجها للنبي فقال:" انظري من أين أنت منه فإنه جنتك ونارك" (أخرجه النسائي) ، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما – أنه قال:" إذا خرجت المرأة من بيت زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع أو تتوب" ، وقال رسول الله :" أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة". فالواجب على المرأة أن تطلب رضا زوجها وتجتنب سخطه ولا تمتنع منه متى أرادها لقول النبي :"إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلتأته وإن كانت على التنور" ، قال العلماء: إلا أن يكون لها عذر من حيض أو نفاس فلا يحل لها أن تجيئه ، ولا يحل للرجل أيضاً أن يطلب ذلك منها في حال الحيض والنفاس ، ولا يجامعها حتى تغتسل لقول الله تعالى:} فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن{ أي لا تقربوا جماعهن حتى يطهرن ، قال ابن قتيبة يطهرن: ينقطع عنهن الدم ، }فإذا تطهرن{ ، أي اغتسلن بالماء والله أعلم. ولما تقدم من قول النبي :" من أتى حائضا أو امرأة من دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد" ، وفي حديث آخر :"ملعون من أتى حائضا أو امرأة في دبرها". والنفاس مثل الحيض إلى الأربعين فلا يحل للمرأة أن تطيع زوجها إذا أراد إتيانها في حال الحيض والنفاس وتطيعه فيما عدا ذلك .
وينبغي للمرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج فلا تتصرف في نفسها ولا في ماله إلا بإذنه ، وتقدم حقه على حقها وحقوق أقاربه على حقوق أقاربها ، وتكون مستعدة لتمتعه بها بجميع أسباب النظافة ، ولا تفتخر عليه بجمالها ، ولا تعيبه بقبح إن كان فيه ، قال الأصمعي دخلت البادية فإذا امرأة حسناء لها بعل قبيح فقلت لها: كيف ترضين لنفسك أن تكوني تحت مثل هذا ؟ فقالت: اسمع يا هذا ، لعله أحسن فيما بينه وبين الله خالقه فجعلني ثوابه ، ولعلي أسأت فجعله عقوبتي). وقالت عائشة - رضي الله عنها - : (يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكم عليكن لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بخد وجهها) .
وفي الحديث :"إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وأطاعت بعلها فلتدخل من أي أبواب الجنة شاءت" ،
فعلى المرأة المسلمة أن تحرص كل الحرص على طاعة زوجها ، فإن حق الزوج عظيم وقد قال :" لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها" (رواه الترمذي) .
والسخط الذي يمنع قبول صلاة المرأة ما كان بسبب مخالفة شرعية ، أما إذا أمرها زوجها بمعصية وسخط عليها لعدم طاعته فيها فلا يؤثر سخطه عليها ..
*************************
المحبط العشرون : التألي على الله:
أي الحلف بالله على الله بأنه لا يغفر لفلان , فعن جندب أن الرسول حدث: " أن رجلاً قال : والله لا يغفر الله لفلان ، وأن الله تعالى قال: من الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان ، قد غفرت لفلان وأحبطتُ عَمَلَك" (رواه مسلم). فحبط عمل هذا الرجل لأنه تألى على الله . فقال والله لا يغفر الله لفلان العاصي .
فلا يجوز للإنسان أن يستحقر الناس وأن يتألى ويرفع نفسه ، ربما يكون هذا الشخص أتقى منك وأورع منك وأخشى وأخشع لله تبارك وتعالى منك .فقول الإنسان وتأليهِ على الله هي خطيئة تحبط العمل لأنهم قَنَّطوا البشر من رحمة رب البشر ..يقول ابن القيم - رحمة الله - : (وأيسر حركات الجوارح حركة اللسان وهي أضرهــا على العبد) .
الله أكبر !! كلمة واحدة أحبطت عمل هذا الإنسان ، ولذلك قال النبي :" إن العبد ليتكلم بالكلمة ما تبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ". وفي رواية عند البخاري: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً يهوي بها في جهنم" .وفي رواية :" وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة ". (رواه مالك) .
فعلى المسلم أن يُمسك لسانه كما قال الله تعالى: }وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا{ . وقال تعالي: }مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ{ .
يقول الإمام النووي - رحمه الله - : اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلام ظاهره فيه مصلحة .قال الشاعر :
احفظْ لسانَكَ أيها الإنســــــــــــانُ لا يَلْدَغنّكَ إنه ثعبــــــــــــــــانُ
كم في المقابرِ من قتيلِ لســـــانهِ كانت تهابُ لقاءَهُ الشُّـــــجْعانُ
وقال آخر :
إذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى وحظُكَ موفورُ وعِرْضُكَ صَيِّنُ
لسَـــــــانَكَ لا تَذْكُرْ به عورةَ امرئٍ فكلُّكَ عوراتٌ وللناسِ ألْسُـــــــنُ
*************************
المحبط الحادي والعشرون: إرادة الدنيا بعمل الآخرة :
وهذا محرم ، وكبيرة من كبائر الذنوب ، وهو من الشرك الأصغر ، ويُبطل العمل الذي يصاحبه.
ومن الأدلة على تحريمه وأنه يُبطل العمل الذي يصاحبه قوله تعالى:}مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{[ هود: 15، 16]. وقوله :}إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه{. (رواه البخاري ومسلم) . ومن أمثلة ذلك:
(1). من يتخذ الحج عن الغير وسيلة للتكسب . وهذا على خطر عظيم ، ويخشى ألا يُقبل حجه ، لأنه آثر الدنيا على الآخرة ، أما إن أخذ ليحج لينفع أخاه ، وليتزود من الطاعات بالطواف ، والصلاة في الحرم ، وحضور حلقات العلم ، فهو على خير عظيم ، ويرجى له أن يحصل له من الأجر مثل أجر من حج عنه. ( من فتوى اللجنة الدائمة رقم:2865).
وقال ابن عثيمين: وفرق بين من حج ليأخذ المال ، ومن أخذ المال ليستعين به على الحج ، فالأول لا يجوز بل يُبطل العمل ولا يصح عن الغير ويكون عليه إعادة المال الذي أخذه ، وأما الثاني فجائز. ( شريط فقه العبادات 8- لابن عثيمين).
وقال ابن تيمية في ذلك : والارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين. أعني إذا كان إنما مقصوده بالعمل اكتساب المال ، والمستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ ، وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح ،... ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة ، ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة. والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق ، كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها. (مجموع الفتاوى- مجلد26).
(2). من يحفظ القرآن أو يتعلمه لأجل الوظيفة والراتب ، أو لأجل أن يقرأه في المآتم والحفلات ويأخذ على ذلك الأجور والمكافآت ، فعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله : " من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله ، لا يتعلمه إلا ليُصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة ". (أخرجه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وصححه الحاكم ، والنووي في رياض الصالحين).
قال الشيخ عائض القرني في شرح الحديث: أي العلم الذي يدل على الآخرة ، وهو علم الكتاب والسنة ، علم الشريعة ، فيخرج من ذلك علم الدنيا ؛ كعلم الطب والهندسة والأبدان والتكنولوجيا؛ لأنه ليس مقصوداً به في الأصل.
"لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا" أي: أنه لم يتعلم هذا العلم إلا لمطلب دنيوي كشهادة أو سمعة أو رياء أو ظهور أو لمنصب أو منزلة أو مال ، فإذا تعلمه لذلك."لم يجد عرف الجنة". عرف الجنة: ريحها ، وقيل: العرف: الطيب من كل شيء ، وعرف الجنة يجده بعض الناس من أربعين سنة ، والبعض من مائة عام ، والبعض من سبعين ، فكيف نجمع بين هذه الأقوال؟.
الجمع أن يقال: هذا باختلاف الذي شم هذه الرائحة ، وباختلاف ذنبه ، فبعضهم كثير الذنب يُبعده الله مائة عام ، وبعضهم أقل منه فيبعده سبعين عاماً؛ وبعضهم أقل فيبعده أربعين عاماً."لم يجد عرف الجنة" . المقصود: أنه لا يدخل الجنة؛ لأنه إذا لم يجد ريحها لم يدخلها . (من منتديات مصابيح نيرة).
(3). من يخرج للغزو من أجل الغنيمة وحدها ، وكمن يطلب العلم الشرعي من أجل الشهادة والوظيفة ولا يريد بذلك كله وجه الله البتة ، فلم يخطر بباله احتساب الأجر عند الله تعالى ، وكمن يهاجر من أجل الزواج بامرأة في مهجره ، مثل مهاجر أم قيس الذي ورد فيه الحديث " فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
*************************
المحبط الثاني والعشرون: العُجب بالنفس:
والعُجب هو : الإحساس بالتميّز ، والافتخار بالنفس ، والفرح بأحوالها ، وبما يصدر عنها من أقوال وأفعال ، محمودة أو مذمومة . وعرَّفه ابن المبارك بعبارة موجزة فقال : (أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك ).
إن المرء قد يعمل طاعة ، فيستعظمها في نفسه ، ويرى أنه قدّم شيئاً كبيراً يستحق أن يُشكر ويُثنى به عليه ، وربما يتطور الأمر فيزداد به الزهو والغرور حتى يُدلّ على الله بعمله . فكأنه هو صاحب الفضل ، وربما أنه ازدرى عباد الله وخاصة من يبدو منهم التقصير فيرى نفسه خيراً منهم . وهذا أُسُّ البلاء ومكمن الداء .
قال :" ثلاث مُنجيات وثلاث مُهلكات ، فأما المنجيات : فخشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الفقر والغنى ، والعدل في الغضب والرضا ، وأما المهلكات : فشحٌ مطاع ، وهوىً متَّبع ، وإعجابُ المرء بنفسه ، وهي أشدهن ". (رواه البيهقي وحسَّنه الألباني).
وعن أبي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رسول الله : " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".(رواه البخاري).
والواجب ألا يغتر الإنسان بعمله مهما عظم ، وألا يحتقر ويزدري غيره بحجة أنه صالح ، وذاك مُذنبٌ مُقصِّر ، فلربما غفر الله لذلك المذنب بانكساره بين يدي ربه وخوفه من ذنبه ، وعذَّب هذا المفتخر المغتر بعبادته وصلاحه ،
قال ابن القيم في ( مدارج السالكين ) : (ويحتمل أن يكون تعييرك لأخيك بذنبه أعظمَ إثماً من ذنبه وأشد من معصيته ؛ لما فيه من صولة الطاعة وتزكيةِ النفس وشكرِها ، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب وأن أخاك باء به ، ولعل كسرته بذنبه وما أُحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب الذي هو فيك وأنت لا تدري ، ووقوفَه بين يدي الله ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب أنفعُ له وخيرٌ من صولة طاعتك وتكثرِك بها والإعتدادِ بها والمنةِ على الله وخلقه بها ، فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله ، وما أقرب هذا المُدل من مقت الله ، فذنب تَذِل به لديه أحب إليه من طاعة تُدل بها عليه ، وإنك أن تبيت نائماً وتصبح نادماً خيرٌ من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً فإن المعجب لا يصعد له عمل ، وإنك أن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل ، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المُدلِّين ، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلاً هو فيك ولا تشعر ، فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرار لا يعلمها إلا هو).
• دخل المُزني على الشافعي في مرض موته فقال : كيف أصبحت يا أبا عبد الله ؟ قال : أصبحت من الدنيا راحلاً ، وللإخوان مفارقاً ، ولسوء عملي ملاقياً ، وعلى الله واردا ، ولا أدري : أروحي تصير إلى الجنة فأهنّيها أم إلى النار فأعزّيها !! ثم أنشد :
إليك إلـه الخلـق أرفـــــع رغبتي *** وإن كنتُ يا ذا المن والجود مجرما
ولما قسـا قلبي وضـاقت مذاهبي *** جعلت الرجـا مني لعفوك سلمــــــا
تعاظمنـي ذنبـي فلمـا قرنتــــــــه *** بعفوك ربي كان عـفوك أعظمــــــا
فإن تعف عني تعف عـن متمـرد *** ظلوم غشـــــــوم لا يـزايـ
عن أنس بن مالك قال نَزَلَ بالنبي أضيافٌ من البحرين فدعا النبي بوضوئه فمسحوا منه وجوههم ورءوسهم وصدورهم ، فقال لهم النبي : «ما دعاكم إلى ذلك ؟» قالوا حُبُّنَا لك ، لعل الله يحبنا يا رسول الله ، فقال: «إن كنتم تريدون أن يحبكم الله ورسوله فحافظوا على ثلاث خصال: صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وحُسن الجوار ، فإن أذى الجار يمحو الحسنات كما تمحو الشمس الجليد» (الصحيحة) .
وقد شاع بين ضعاف النفوس الإساءة إلى الجار ومضارته ، وتناسى الكثير حقوق الجار وعظم حقه وأن الله تعالى قد أوصى بالجار من فوق سبع سماوات ، فقال تعالى :}وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا{ (النساء:36) ، وتناسى الكثير أن إيذاء الجيران من مبطلات الأعمال الصالحة ومحبطات أجرها وثوابها كما أخبر بذلك رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى ، فقال رسول الله : « فإن أذى الجار يمحو الحسنات كما تمحو الشمس الجليد».
- وقد عظَّم الإسلام حق الجار فعن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم – قالا: قال رسول الله : « ما زال جبريل - عليه السلام - يُوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورِّثه » (متفق عليه) ، وعن رجل من الأنصار قال خرجتُ مع أهلي أريدُ النبي ، وإذا أنا به قائم ، وإذا رجلٌ مقبلٌ عليه ، فظننت أن لهما حاجة ، فجلست ، فوالله لقد قام رسول الله حتى جعلت أرثي له من القيام ، ثم انصرف ، فقمت إليه ، فقلت يا رسول الله ، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام قال: «أتدري من هذا ؟» قلت: لا ، قال: « ذاك جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ، أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام » (صحيح الترغيب).
- ونفى رسول الله الإيمان عن الذي لا يأمن جاره شره فعن أبي هريرة أن رسول الله قال « والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن » قيل: مَن يا رسول الله ؟ قال: « الذي لا يأمن جاره بوائقه» (متفق عليه) ، وعن أبي شريح الكعبي قال: قال رسول الله : « والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن » قيل: يا رسول ، لقد خاب وخسر، من هذا ؟ قال: «من لا يأمن جاره بوائقه» قالوا وما بوائقه ؟ قال «شره» (صحيح الجامع) . والذنب يعظم إذا ارتكب في حق الجار ويضاعف إثم صاحبه ، فعن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله لأصحابه « ما تقولون في الزنا ؟ » قالوا حرامٌ ، حرَّمه الله ورسوله ، فهو حرام إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله : «لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» ، قال: « ما تقولون في السرقة؟ » قالوا: حرَّمها الله ورسوله فهي حرام ، قال: « لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات ، أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره » (رواه أحمد).
- وبيَّن أن حسن الجوار يُعمر الديار ، ويزيد في الأعمار فعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله قال: « صلة الرحم ، وحسن الخلق ، وحسن الجوار يعمرن الديار ، ويزدن في الأعمار» (صحيح الجامع).
- وجعل الإحسان إلى الجار عنوان الإيمان: فعن أبي شريح الخزاعي أن النبي قال « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليحسن إلى جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرًا أو ليسكت» (مسلم).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يُعلم من يعمل بهن؟» فقال أبو هريرة: قلت أنا يا رسول الله. فأخذ بيدي فعدَّ خمساً ، فقال: « اتق المحارم تكن أعبد الناس ، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس ، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً ، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً ، ولا تكثر الضحك ، فإن كثرة الضحك تُميت القلب» (صحيح الجامع).
- وجعل عدم أذية الجار عنوان الإيمان أيضاً: فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: « مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت» (متفق عليه).
وعن أنس بن مالك أن رسول الله قال: « لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ، ولا يستقيم لسانه ولا يدخل الجنة حتى يأمن جاره بوائقه» (صحيح الترغيب).
وعنه قال: قال رسول الله : « المؤمن من أمنه الناس ، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر السوء ، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبدٌ لا يأمن جاره بوائقه » (صحيح الترغيب).
وفي هذا دليل على تحريم العدوان على الجار ، سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل ، أما بالقول كأن يسمع منه ما يزعجه ويقلقه ، وإن من شر ما ابتلي به الجيران من جيرانهم رفع صوت المسجل والتلفاز ، فإن هذه الأصوات العالية تشوش على المصلي ، وتؤذي الطالب ، وتزعج المريض ، وهذا لا يحل ، وهل المؤمنُ إلا من أمنهُ الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم ، وهل الإيمان إلا من الأمن؟ فإذا كان الجار لجاره حرباً ، وعليه ضدًا فكيف يكون من المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله؟ لقد كان الواجب عليه أن يتفقد أمور جاره ، ويساعده بكل ما استطاع ، ويعمل على جلب الخير له ودفع ما يضره ، حتى يكون في عيشة راضية وحياة طيبة ، كما يعمل بعض الجيران المحسنين الذين يألفون ويؤلفون.
- ومن الأذية بالقول: أن تؤذيه بالسب وغير ذلك فإن ذلك يُحبط الأعمال : فعن أبي هريرة قال: قال رجلٌ يا رسول الله ، إن فلانة يُذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها ، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها . قال: « هي في النار» ، قال يا رسول الله : فإن فلانة يُذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها وأنها تتصدق بالأتوار من الأقط ، ولا تؤذي جيرانها بلسانها قال: "هي في الجنة". (صحيح الترغيب) ، الأتوار : جمع تور ، وهي القطعة من الأقط ، والأقط : هو شيء يتخذ من مخيض اللبن الغنمي ، أو هو اللبن المجفف . فاصبر على جارك السوء وصابر واحذر أن يضيق صدرك عليه فتؤذيه بلسانك فيحبط عملك.
- وأما بالفعل: فيكون بمضايقته في بناء أو ممر أو بميزاب يصب عليه ، أو بقذر أو وسخ تلقيه أمام منزله ، أو إغلاق الباب دونه ، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله : «كم من جار متعلق بجاره يقول يا رب ، سل هذا لم أغلق عني بابه ومنعني فضله» (صحيح الترغيب).
فاحذر كل الحذر أن تؤذي جارك بقول أو فعل وحسبك أن شهادة جارك بالخير من أسباب مغفرة الذنوب ، قال : « ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون عنه إلا خيرًا ، إلا قال الله تبارك وتعالى قد قبلت قولكم ، أو قال شهادتكم ، وغفرت له ما لا تعلمون» (أحمد).
ويعرف المسلم نفسه إذا كان قد أحسن إلى جيرانه ، أو أساء إليهم ، فعن ابن مسعود قال: قال رجلٌ للنبي : يا رسول الله ، كيف لي أعلم إذا أحسنتُ أو أسأتُ ؟ فقال النبيُّ : «إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت ، فقد أحسنت ، وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت ؛ فقد أسأت» (صحيح الجامع) .
فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بإهداء ما تيسر ، وبداءته بالسلام والصفح عن زلاته ، وإظهار البشر له ، وعيادته وتعزيته عند المصيبة وتهنئته بما يفرحه ، ويستر ما انكشف له من عورة ، ويغضُّ بصره عن محارمه ، ويمنع أولاده وأهله من أذية أولاد جاره وأهلهم ويعمل كل ما فيه نفعٌ لهم ويقدر عليه ، ويدفع عنهم ما يضرهم ما استطاع ، فبهذه الأشياء تقع - بإذن الله - الألفة والمحبة ، وبها تحصل المودة ويصبحُ المرء بين جيرانه محبوبًا موقِّرًا يتفقدونه إذا غاب ويسألون عنه ، وحسب المسلم أن الصبر على أذى الجار يجلب لصاحبه محبة الله ورسوله ، فعن عبد الرحمن بن أبي قراد قال: قال رسول الله : «إن أحببتم أن يحبكم الله تعالى ورسوله فأدوا إذا ائتمنتم ، واصدقوا إذا حدثتم ، وأحسنوا جوار من جاوركم» (صحيح الجامع) . وقال ابن عبد البر: ثلاثٌ إذا كن في الرجل لم يشك في عقله وفضله: «إذا حمده جاره وقرابته ورفيقه» .
فاطلب لنفسك جيرانًا تُسرُّ بهم ..... لا تصلح الدار حتى يصلح الجارُ
وحسبك قول ابن مسعود لرجل أتاه وقال له إن لي جارًا يُؤذيني ويشتمني ويُضيق عليَّ فقال له: اذهب ، فإن عصى الله فيك فأطع الله فيه ، وقول الحسن: ليس حُسن الجوار كف الأذى ، ولكن حسن الجوار احتمال الأذى. (جامع العلوم والحكم) . (المحبط السادس من محبطات الأعمال – إعداد/ عبده الأقرع – مجلة التوحيد - بتصرف).
*************************
المحبط الرابع عشر: الذهاب إلى العرافين:
عن بعض أزواج النبي ، عن النبي قال : « من أتى عرافاً ، فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً» (مسلم).
قال البغوي: العراف الذي يدَّعي معرفة الأمور بمقدماتٍ يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. (شرح السنة). وقال ابن تيمية: العَرَّافُ: اسم للكاهن والمنجم والرمَّال ونحوهم. (مجموع الفتاوى) .
ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يومًا ، ولكنه ليس على إطلاقه ، فسؤال العرَّاف ، ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول: أن يسأله سؤالاً مجردًا ، فهذا حرام ؛ لقول النبي : « من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا» . فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه ، إذ لا عقوبة إلا على فعل محرّم .
القسم الثاني: أن يسأله ويصدقه فهذا كفر ، ففي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد» (صحيح الجامع). أي بالذي أُنزل على محمدٍ ، والذي أُنزل عليه القرآن ، أُنزل إليه بواسطة جبريل عليه السلام ، قال الله تعالى: }وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ{ (الشعراء: 192- 193) ، وقال تعالى: }قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ{ (النحل:102) ، وقد قال الله تعالى :}قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ{ (النمل:65) . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «مَن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول ، أو أتى امرأة حائضًا ، أو أتى امرأة في دبرها ، فقد برئ مما أُنزل على محمد» (صحيح الجامع). وعن عمران بن حصين أن النبي قال: «ليس منا من تطير ولا من تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو تسحر أو تسحر له» (صحيح الجامع).
القسم الثالث: أن يسأله ليختبره هل هو صادق أو كاذب ، لا لأجل أن يأخذ بقوله ، فهذا لا بأس به ، وقد سأل النبي ابن صياد ، فقال «ماذا خبأت لك؟» قال: الدُّخ ، فقال: «اخسأ ، فلن تعدو قدرك» (متفق عليه) ، فالنبي سأله عن شيء أضمره له ، لأجل أن يختبره ، فأخبره به .
القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه ، فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه ، وهذا مطلوب ، وقد يكون واجبًا ، وإبطال قول الكهنة لا شك أنه أمرٌ مطلوب ، وقد يكون واجبًا. (القول المفيد على كتاب التوحيد) . فتصديق أدعياءِ عِلْمِ الغيب ، وإتيانُ الكهنةِ والعرافين ، والرمالين والمنجمين ، والمشعوذين ، والدجالين ، الذين يزعمون الإخبار عن الغيبيات زورًا وبهتانًا ، وكذبًا وادِّعاءً ، فهذا كله ضلال وباطل ، وداءٌ خطيرٌ وشر مستطيرٌ ، فعلم الغيب ، مما استأثر الله به وحده ، قال سبحانه: «قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ» (النمل:65).
وفي تعاطي السحر والتعامل به جمعٌ بين الكفر والإضرار بالناس: قال الله تعالى: }وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (البقرة:102). فدلت هذه الآية الكريمة على أن الذين يتعلمون السحر إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، وأنه ليس لهم عند الله من خلاق ، أي «من حظ» ، وهذا وعيد عظيم يدل على شدة خسارتهم في الدنيا والآخرة ، وأنهم باعوا أنفسهم بأبخس الأثمان ، ولهذا ذمهم الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: }وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ{ (البقرة:102) ، ولقد نفى الله الفلاحَ عن الساحر ، فقال سبحانه: }وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى{ (طه:69) ، أي لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض .
السحر من الموبقات ، أي المهلكات: فعن أبي هريرة عن النبي قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا يا رسول الله ، وما هن ؟ قال: «الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» . فعدَ رسول الله السحر بعد الشرك وقبل القتل . ومعنى «التولي يوم الزحف» أي الفرار من صف القتال يوم زحف المسلمين على العدو ، ومعنى «المحصنات» أي العفيفات ، قال الله تعالى:}إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{ (النور:23).
والكهنة والعرافون يتعاملون مع الشياطين يقيناً ، ولا يساعد الشيطان قرينه الآدمي إلا إذا أصبح وليًا له ، قال الله تعالى : }هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ{ (الشعراء) ، وقال تعالى:}وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ{ (الأنعام:21).
فحذار أيها المسلم حذار من ذهابك أو ذهاب زوجتك أو ولدك أو بعض أهلك للكهنة وسؤالهم إياهم ، فإنَّ هذا صد عن الدين ، وقد علمتَ أن الله عز وجل لم يقبل صلاة أربعين يومًا لمن يسأل العراف أو الكاهن ، وحَكَم رسول الله بكفر من يسأله ويصدقه ، فما بالك بالعراف نفسه ؟ . عن معاوية بن الحكم قال: قلت يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية ، وقد جاء الله تعالى بالإسلام ، وإنَّ منا رجالاً يأتون الكهان؟ قال «فلا تأتهم» (مسلم).
شبهة وجوابها:
قد يقول بعض الناس: إننا جربنا سؤال هؤلاء العرافين فوجدناهم يصدقون في حديثهم عن بعض الأمور.
والجواب: أن رسول الله أخبر بذلك ، فعن عائشة - رضي الله عنها – قالت: سأل رسولَ الله أناسٌ عن الكهان ، فقال: «ليسوا بشيء» ، فقالوا يا رسول الله ، إنهم يحدثوننا أحيانًا بشيء فيكون حقًا ؟ فقال رسول الله : «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أُذُن وليه ، فيخلطون معها مائة كذبة» (متفق عليه) ، معنى فيقرها: أي يلقيها.
وفي رواية للبخاري عن عائشة - رضي الله عنه - أنها سمعت رسول الله يقول: «إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قُضي في السماء ، فيسترق الشيطان السمع ، فيسمعه ، فيوحيه إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم» (صحيح الجامع) .
فالساحر دَعِيّ كذابٌ ولو طار في الهواء ، ومشى على الماء ، ولَبَّس على الجهلة والدهماء فأين عقولنا ؟ ماذا أصاب العقول ؟ إذا كان صفوةُ خلق الله ، وأفضل عباد الله يخاطبه الله بقوله سبحانه: }قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{ (الأعراف:188).ونهاه سبحانه بقوله: }وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ (يونس:107) ، إذا كان ذلك في حقه فغيره أولى وأحرى أن يحذر من ذلك }ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ{ (الحج:62) فكونوا على حذر يا عباد الله من المشعوذين والدجالين ، وعلقوا آمالكم بالله فهو سبحانه دافع الضر ومالك النفع ، له الأمر كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، قضاؤه نافذٌ ، وقدره كائن ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، ولا راد لما قضى ، ولا واصل لما قطع: }قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ{ (الزمر:38).
يا مَن ألوذ به فيــــــــــــما أؤَمِّلُهُ .... ومن أعـــــــــوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره .... ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
وإذا كان الابتلاء سنة والبشر عرضةً للأمراض والأسقام فإنَّ التداوي المشروع أمرٌ مطلوب ، فعن جابر قال: قال رسول الله : « لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى » (مسلم) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « ما أنزل اللهُ داءً إلا أنزل له شفاءً » (صحيح الجامع) ، وعن أسامة بن شريك أن النبي قال : « تداوَوْا عباد الله ، فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواء ، غير داءٍ واحدٍ الهرم » وهو الشيخوخة (صحيح الجامع ، وغاية المرام) .
فالتداوي المشروع لا ينافي التوكل على الله ، وقد أخبر الله عن القرآن بأنه هدى وشفاء من كل مرض وداء ، فقال تعالى: }وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ{ (الإسراء:82) ، وقال تعالى: }قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ{ (فصلت:44) ، وقال تعالى:}وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا{ (النساء:87).
فحصنوا أنفسكم وأولادكم بالرقى المشروعة ، والأوراد المأثورة ، فهي حصنٌ حصينٌ ، وحرزٌ أمين بإذن الله الشافي الرحيم ، داوموا على أوراد الصباح والمساء ، وأدعية الدخول والخروج ، والنوم والاستيقاظ ، وهاكم عباد الله وصفةً طبيةً نبوية ، هي خيرٌ لكم وأمانٌ ، عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله : «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ، ومساء كل ليلة "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات" ، فيضره شيء» (صحيح الجامع). وعن عبد الله بن خبيب قال: قلت لرسول الله ماذا أقول؟ قال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، والمعوذتين حين تُمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء». (صحيح الجامع).
وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله «مَن تصبَّح كل يوم سبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر» (البخاري ، ومسلم) . وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله قال : «إن في عجوة العالية شفاء ، وإنها ترياقٌ من أول البكرة» (صحيح مسلم). و«العالية» المقصود بها عالية المدينة ، وجمعها عوال ، وهي مكان في الجهة الجنوبية من المدينة وأدناها إلى المسجد النبوي يبعد ميلاً «الترياق» ما يستعمل لدفع السم من الأدوية والمعاجن
«أول البكرة» المراد( أكلها في الصباح قبل أن يأكل أي شيء آخر). (المحبط التاسع من محبطات الأعمال – إعداد/ عبده الأقرع – مجلة التوحيد - بتصرف).
***************************
المحبط الخامس عشر: فعل عبادة مؤقتة بوقت بعد خروج وقتها:
فكل عبادة شرع الله لها وقتاً معيناً لا يقبلها ممن فعلها بعد وقتها ، فلا يؤجر على فعلها بل يأثم على تأخيرها ، ومن ذلك:
1- الصلوات المفروضة: فإن الله فرضها بأوقات محددة كما قال تعالى :}إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا{ ، وقد حدد جبريل – عليه السلام – لنبينا - أوقاتها وبيَّنها النبي لأمته ، فمن أدَّاها بعد خروج وقتها – لغير عذر شرعي كالجمع لما يشرع جمعه – فهي غير مقبولة بل وصاحبها متوعد بالمعاقبة على فعلها في غير وقتها كما في قوله تعالى: }فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ{ قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله – في تفسيره : }فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ{ . قال ابن عباس ، وغيره: يعني المنافقين ، الذين يُصلون في العلانية ولا يُصلون في السر. ولهذا قال: لِلْمُصَلِّينَ. أي: الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها ، ثم هم عنها ساهون ، إما عن فعلها بالكلية ، كما قاله ابن عباس ، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعاً ، فيُخرجها عن وقتها بالكلية ، كما قاله مسروق ، وأبو الضحى.. ا هـ
وسئل الشيخ ابن عثيمين: بارك الله فيكم ، في سؤاله الأخير يقول: ما معنى قوله تعالى :}فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون{؟ .
فأجاب – رحمه الله - : ويل هذه كلمة وعيد وتهديد ، والمصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون: هم الذين يصلون ولكن لا يُبالون بصلاتهم ، يغفلون عنها فيؤخرونها عن وقتها ، ولا يأتون بواجباتها وأركانها وشروطها ، فهم يصلون ولكنهم ساهون عن صلاتهم لا يقيمونها على الوجه المطلوب منهم ، وأما الذين يراءون فهم الذين يراءون الناس في عبادة الله يتعبدون لله أمام الناس ليراهم الناس ويمدحوهم على عبادتهم لله عز وجل ، وأما الذين يمنعون الماعون فهم الذين يمنعون الأواني وشبهها مما يستعيره الناس في العادة والإنسان مستغنيً عنه ، فتجده لبخله يمنع حتى إعارة الماعون ، فوصف الله هؤلاء بأنهم غافلون عن صلاتهم مراءون في عباداتهم بخلاء في أموالهم ، نعم .(فتاوى نور على الدرب) .
وكقوله تعالى :} فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا { (مريم:59)
قال ابن كثير في تفسيره: .... وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا ، فقال قائلون : المراد بإضاعتها تركها بالكلية ، قاله محمد بن كعب القرظي ، وابن زيد بن أسلم ، والسدِّي ، واختاره ابن جرير . ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة - كما هو المشهور عن الإمام أحمد ، وقول عن الشافعي - إلى تكفير تارك الصلاة ، للحديث: " بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة " ، والحديث الآخر: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " وليس هذا محل بسط هذه المسألة .
وقال الأوزاعي ، عن موسى بن سليمان ، عن القاسم بن مخيمرة في قوله فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة) ، قال : إنما أضاعوا المواقيت ، ولو كان تركا كان كفرا .
وقال وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، والحسن بن سعد ، عن ابن مسعود أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن:} الذين هم عن صلاتهم ساهون { و }على صلاتهم دائمون{ و}على صلاتهم يحافظون{ ؟ قال ابن مسعود : على مواقيتها . قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على الترك ؟ قال : ذاك الكفر .
وقال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس ، فيُكتب من الغافلين ، وفي إفراطهن الهلكة ، وإفراطهن : إضاعتهن عن وقتهن .
وقال الأوزاعي ، عن إبراهيم بن يزيد : أن عمر بن عبد العزيز قرأ: ) فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا) ، ثم قال : لم تكن إضاعتهم تركها ، ولكن أضاعوا الوقت . .أ هـ .
ويقع في هذا الخطأ :
أ- من يصلي المغرب متأخراً قبل أذان العشاء بوقت قليل – حسب التقويم - ، وذلك لأن وقت العشاء في التقويم متأخر عن غياب الشفق – الذي هو وقت دخول العشاء – بنحو ثلث إلى نصف ساعة – مثلما تقدم وقت الفجر ، فإن الوقت بين طلوع الفجر وشروق الشمس مساوي للوقت بين غروب الشمس وغياب الشفق ، وهو ساعة واحدة تقريباً كما قال الشيخ أحمد شاكر- رحمه الله - ، وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي تقدير ذلك ساعة أو ساعة وعشر دقائق تقريباً.( فتاوى منوعة-2) . ولي رسالة في هذا الموضوع بعنوان "القول القويم في الصلاة حسب التقويم" لمن أراد الاستزادة.
ب- من يصلي العشاء بعد منتصف الليل ، لأن وقت العشاء ينتهي عند منتصف الليل .
ج- من يؤخر صلوات النهار حتى يعود إلى بيته ويصليها جميعاً ليلاً .
د- من يترك قضاء الفوائت التي نسيها – أو نام عنها من غير تفريط – إلى وقتها من الغد .
هـ - من يؤخر الصلاة حتى ينزل من وسيلة المواصلات مما يُفوِّت وقتها: – ما لم تكن مما تجمع ونوى جمعها - ، والواجب عليه أن يُؤخِّر الركوب حتى يصلي ، أو يصلي وهو راكب حسب استطاعته ولا يؤخر الصلاة عن وقتها. (بتصرف من الملخص الفقهي للفوزان) .
ز- من يترك الصلاة من المرضى ومن تجرى لهم عمليات جراحية: بحجة أنهم لا يقدرون على أداء الصلاة بصفة كاملة ، أو لا يقدرون على الوضوء ولا التيمم ، أو لأن ملابسهم نجسة ، وغير ذلك من الأعذار ، وهذا خطأ كبير بل على المسلم أن يصلي الصلاة في وقتها على حسب استطاعته. (الملخص الفقهي للفوزان – بتصرف-) .
ح- من يترك الصلاة حتى يخرج وقتها لعدم وجود ماء للوضوء ولا تراب للتيمم ، والصواب أن فاقد الطهورين يصلي بغير طهارة ، ويسقط عنه شرط الطهارة لعجزه .
2- زكاة الفطر في رمضان: فإن وقتها ينتهي بصلاة العيد ، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " فرض رسول اللَّه زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات"(حسن: صحيح ابن ماجه: 148) أي أنها غير مقبولة كزكاة فطر .
3- ذبح الأضاحي: فهي عبادة مؤقتة يبدأ وقتها بعد صلاة العيد وينتهي بغروب شمس ثالث أيام التشريق فمن ذبحها في غير وقتها لم تقبل منه ،
قال الشيخ ابن عثيمين في (أحكام الأضحية والذكاة – 3) : ليس المقصود من الأضحية مجرد اللحم للانتفاع أو الصدقة به ، وإنما المقصود بالأضحية إقامة شعيرة من شعائر الله على الوجه الذي شرعه الله ورسوله ، فوجب تقييدها بحسب ما جاء به الشرع ، ولذلك فرَّق النبي بين شاة اللحم وشاة النسك حيث قال : "من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة اللحم أو فهو لحم قدَّمه لأهله ، ومن ذبح بعد الصلاة ؛ فقد أصاب النسك ، أو قال : فقد تم نسكه ، وأصاب سنة المسلمين" ، كما فرَّق في زكاة الفطر بين ما دُفع قبل الصلاة وما دُفع بعدها ، فالأول زكاة مقبولة ، والثاني صدقة من الصدقات ، مع أن كلا منهما صاع من طعام ، لكن لما كان المدفوع قبل الصلاة على وفق الحدود الشرعية ؛ كان زكاة مقبولة ، ولما كان المدفوع بعدها على غير وفق الحدود الشرعية ؛ لم يكن زكاة مقبولة ، وهذه هي القاعدة العامة الشرعية . قال النبي : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ". (رواه مسلم) ، أي : مردود على صاحبه ، وإن كانت نيته حسنة ؛ لعموم الحديث .
*************************
المحبط السادس عشر: فعل طاعة بارتكاب محرم :
بعض الناس قد يحرص على فعل الطاعة بأي وسيلة كانت ، وقد تكون الوسيلة محرمة ، فحينئذ لا تقبل منه طاعته ، ومن أمثلة ذلك :
(1). من يحج الفريضة لكن بمال حرام ، فهذا تسقط عنه الفريضة – أي لا يطالب بإعادتها - لكن لا ثواب له عليها ، لأن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبا ، فمن حج بمال حرام سقطت عنه الفريضة فلا يُعاقب على تركها لكنه لا يُثاب عليها ، ولا تنافي بين سقوط فريضة الحج وعدم قبوله . (من فتاوى دار الإفتاء المصرية قديماً – مجلة التوحيد ذي الحجة 1421هـ).
(2). من تخرج للصلاة في المسجد ولكنها تخرج متطيبة لحديث: " أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد لم تُقبل لها صلاة حتى تغتسل " . (رواه ابن ماجة) . وفي الحديث الآخر : " أيما امرأة استعطرت فمرَّت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية " (رواه أبو داود) .
(3). من يزكي أو يتصدق من كسبٍ حرام ، كمن يعمل في بنك ربوي مثلاً ويخرج زكاة ماله ، وكمن تعمل بالبغاء لتطعم الأيتام ، وفيها قال القائل :
ومُطعمةُ أيتام من كدِّ فرجها ويْحكِ لا تزني ولا تتصدقي .
ويروى أن أبا حنيفة – رحمه الله - رأى رجلاً يسرق تفاحة ، ثم وجده بعدما سرقها يعطيها لمسكين ، فسأله: لماذا سرقتها ثم تصدقت بها؟ ، فقال الرجل : سرقتها فكتبت علي سيئة واحدة ، وتصدقت بها فكتبت لي عشر حسنات ، فأكون قد كسبت تسع حسنات . فقال له أبو حنيفة : لا ، بل سرقتها فكتبت عليك سيئة ، وتصدقت بها فلم يقبلها الله منك .
*************************
المحبط السابع عشر : الكلام والعبث بالمسجد أثناء خطبة الجمعة:
فاللغو بالمسجد أثناء خطبة الجمعة بالكلام ، أو رد السلام ، أو تشميت العاطس ، أو حتى العبث كالتسبيح بالمسبحة أو التسوك وغير ذلك يُبطل ثواب الجمعة ، قال : " " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" . (متفق على صحته). وقال : " من مس الحصى فقد لغا " . (رواه مسلم والترمذي).
ومثل ذلك رفع الصوت بالمسجد أثناء خطبة الجمعة بالدعاء أو الصلاة على النبي أو التأمين على دعاء الخطيب أو التعوذ عندما يسمع شيئاً من الوعيد في الخطبة ، أو بالسؤال والدعاء عندما يسمع شيئاً من ذكر الثواب أو الجنة ، وكل هذا لا يجوز ، وهو داخل في الكلام المنهي عنه حال الخطبة ، الذي يُفسد الأجر ، ويجعل المتكلم لا جمعة له ، ويكون كالحمار يحمل أسفاراً ، للأحاديث الواردة بذلك . فيجب الحذر من ذلك والتحذير منه . (الملخص الفقهي للفوزان ص:156 بتصرف يسير) .
*************************
المحبط الثامن عشر: إمامة القوم وهم له كارهون :
قال : " ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً : رجلٌ أمَّ قوماً وهم له كارهون ، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ، والعبد الآبق حتى يرجع ". (رواه ابن ماجة وحسنه الألباني). ، والعبرة بالكراهية الدينية التي تكون لسبب ديني ، أما الكراهية لإحن ولأمور دنيوية فلا قيمة لها ، بأن يكون الإمام مثلاً مبتدعاً أو فاسقاً داعياً لبدعته أو فسقه ، أو مخالفاً للسنة ، كالحليق والمسبل لإزاره. أما إذا كان الإمام على عقيدة صحيحة وسيرة حسنة فلا يضره ولو كرهه كل المصلين. ( من موقع الدين النصيحة) .
*************************
التاسع عشر: نشوز المرأة على طاعة زوجها :
قال :"اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما : عبد آبق من مـواليه حتى يرجع إليه ، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع ". (رواه الحاكم). وعن جابر عن النبي قال:" ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة ولا تُرفع لهم إلى السماء حسنة: العبد الآبق حتى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم ، والمرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى عنها ، والسكران حتى يصحو" ، وعن الحسن قال حدثني من سمع النبي يقول:" أول ما تسأل عنه المرأة يوم القيامة عن صلاتها وعن بعلها" ، وقالت عمة حصين بن محصن وذكرت زوجها للنبي فقال:" انظري من أين أنت منه فإنه جنتك ونارك" (أخرجه النسائي) ، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما – أنه قال:" إذا خرجت المرأة من بيت زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع أو تتوب" ، وقال رسول الله :" أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة". فالواجب على المرأة أن تطلب رضا زوجها وتجتنب سخطه ولا تمتنع منه متى أرادها لقول النبي :"إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلتأته وإن كانت على التنور" ، قال العلماء: إلا أن يكون لها عذر من حيض أو نفاس فلا يحل لها أن تجيئه ، ولا يحل للرجل أيضاً أن يطلب ذلك منها في حال الحيض والنفاس ، ولا يجامعها حتى تغتسل لقول الله تعالى:} فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن{ أي لا تقربوا جماعهن حتى يطهرن ، قال ابن قتيبة يطهرن: ينقطع عنهن الدم ، }فإذا تطهرن{ ، أي اغتسلن بالماء والله أعلم. ولما تقدم من قول النبي :" من أتى حائضا أو امرأة من دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد" ، وفي حديث آخر :"ملعون من أتى حائضا أو امرأة في دبرها". والنفاس مثل الحيض إلى الأربعين فلا يحل للمرأة أن تطيع زوجها إذا أراد إتيانها في حال الحيض والنفاس وتطيعه فيما عدا ذلك .
وينبغي للمرأة أن تعرف أنها كالمملوك للزوج فلا تتصرف في نفسها ولا في ماله إلا بإذنه ، وتقدم حقه على حقها وحقوق أقاربه على حقوق أقاربها ، وتكون مستعدة لتمتعه بها بجميع أسباب النظافة ، ولا تفتخر عليه بجمالها ، ولا تعيبه بقبح إن كان فيه ، قال الأصمعي دخلت البادية فإذا امرأة حسناء لها بعل قبيح فقلت لها: كيف ترضين لنفسك أن تكوني تحت مثل هذا ؟ فقالت: اسمع يا هذا ، لعله أحسن فيما بينه وبين الله خالقه فجعلني ثوابه ، ولعلي أسأت فجعله عقوبتي). وقالت عائشة - رضي الله عنها - : (يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكم عليكن لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بخد وجهها) .
وفي الحديث :"إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وأطاعت بعلها فلتدخل من أي أبواب الجنة شاءت" ،
فعلى المرأة المسلمة أن تحرص كل الحرص على طاعة زوجها ، فإن حق الزوج عظيم وقد قال :" لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها" (رواه الترمذي) .
والسخط الذي يمنع قبول صلاة المرأة ما كان بسبب مخالفة شرعية ، أما إذا أمرها زوجها بمعصية وسخط عليها لعدم طاعته فيها فلا يؤثر سخطه عليها ..
*************************
المحبط العشرون : التألي على الله:
أي الحلف بالله على الله بأنه لا يغفر لفلان , فعن جندب أن الرسول حدث: " أن رجلاً قال : والله لا يغفر الله لفلان ، وأن الله تعالى قال: من الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان ، قد غفرت لفلان وأحبطتُ عَمَلَك" (رواه مسلم). فحبط عمل هذا الرجل لأنه تألى على الله . فقال والله لا يغفر الله لفلان العاصي .
فلا يجوز للإنسان أن يستحقر الناس وأن يتألى ويرفع نفسه ، ربما يكون هذا الشخص أتقى منك وأورع منك وأخشى وأخشع لله تبارك وتعالى منك .فقول الإنسان وتأليهِ على الله هي خطيئة تحبط العمل لأنهم قَنَّطوا البشر من رحمة رب البشر ..يقول ابن القيم - رحمة الله - : (وأيسر حركات الجوارح حركة اللسان وهي أضرهــا على العبد) .
الله أكبر !! كلمة واحدة أحبطت عمل هذا الإنسان ، ولذلك قال النبي :" إن العبد ليتكلم بالكلمة ما تبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب ". وفي رواية عند البخاري: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً يهوي بها في جهنم" .وفي رواية :" وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة ". (رواه مالك) .
فعلى المسلم أن يُمسك لسانه كما قال الله تعالى: }وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا{ . وقال تعالي: }مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ{ .
يقول الإمام النووي - رحمه الله - : اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلام ظاهره فيه مصلحة .قال الشاعر :
احفظْ لسانَكَ أيها الإنســــــــــــانُ لا يَلْدَغنّكَ إنه ثعبــــــــــــــــانُ
كم في المقابرِ من قتيلِ لســـــانهِ كانت تهابُ لقاءَهُ الشُّـــــجْعانُ
وقال آخر :
إذا شئتَ أن تحيا سليماً من الأذى وحظُكَ موفورُ وعِرْضُكَ صَيِّنُ
لسَـــــــانَكَ لا تَذْكُرْ به عورةَ امرئٍ فكلُّكَ عوراتٌ وللناسِ ألْسُـــــــنُ
*************************
المحبط الحادي والعشرون: إرادة الدنيا بعمل الآخرة :
وهذا محرم ، وكبيرة من كبائر الذنوب ، وهو من الشرك الأصغر ، ويُبطل العمل الذي يصاحبه.
ومن الأدلة على تحريمه وأنه يُبطل العمل الذي يصاحبه قوله تعالى:}مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{[ هود: 15، 16]. وقوله :}إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه{. (رواه البخاري ومسلم) . ومن أمثلة ذلك:
(1). من يتخذ الحج عن الغير وسيلة للتكسب . وهذا على خطر عظيم ، ويخشى ألا يُقبل حجه ، لأنه آثر الدنيا على الآخرة ، أما إن أخذ ليحج لينفع أخاه ، وليتزود من الطاعات بالطواف ، والصلاة في الحرم ، وحضور حلقات العلم ، فهو على خير عظيم ، ويرجى له أن يحصل له من الأجر مثل أجر من حج عنه. ( من فتوى اللجنة الدائمة رقم:2865).
وقال ابن عثيمين: وفرق بين من حج ليأخذ المال ، ومن أخذ المال ليستعين به على الحج ، فالأول لا يجوز بل يُبطل العمل ولا يصح عن الغير ويكون عليه إعادة المال الذي أخذه ، وأما الثاني فجائز. ( شريط فقه العبادات 8- لابن عثيمين).
وقال ابن تيمية في ذلك : والارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين. أعني إذا كان إنما مقصوده بالعمل اكتساب المال ، والمستحب أن يأخذ ليحج لا أن يحج ليأخذ ، وهذا في جميع الأرزاق المأخوذة على عمل صالح ،... ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة ، ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة. والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق ، كما دلت عليه نصوص ليس هذا موضعها. (مجموع الفتاوى- مجلد26).
(2). من يحفظ القرآن أو يتعلمه لأجل الوظيفة والراتب ، أو لأجل أن يقرأه في المآتم والحفلات ويأخذ على ذلك الأجور والمكافآت ، فعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله : " من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله ، لا يتعلمه إلا ليُصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة ". (أخرجه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وصححه الحاكم ، والنووي في رياض الصالحين).
قال الشيخ عائض القرني في شرح الحديث: أي العلم الذي يدل على الآخرة ، وهو علم الكتاب والسنة ، علم الشريعة ، فيخرج من ذلك علم الدنيا ؛ كعلم الطب والهندسة والأبدان والتكنولوجيا؛ لأنه ليس مقصوداً به في الأصل.
"لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا" أي: أنه لم يتعلم هذا العلم إلا لمطلب دنيوي كشهادة أو سمعة أو رياء أو ظهور أو لمنصب أو منزلة أو مال ، فإذا تعلمه لذلك."لم يجد عرف الجنة". عرف الجنة: ريحها ، وقيل: العرف: الطيب من كل شيء ، وعرف الجنة يجده بعض الناس من أربعين سنة ، والبعض من مائة عام ، والبعض من سبعين ، فكيف نجمع بين هذه الأقوال؟.
الجمع أن يقال: هذا باختلاف الذي شم هذه الرائحة ، وباختلاف ذنبه ، فبعضهم كثير الذنب يُبعده الله مائة عام ، وبعضهم أقل منه فيبعده سبعين عاماً؛ وبعضهم أقل فيبعده أربعين عاماً."لم يجد عرف الجنة" . المقصود: أنه لا يدخل الجنة؛ لأنه إذا لم يجد ريحها لم يدخلها . (من منتديات مصابيح نيرة).
(3). من يخرج للغزو من أجل الغنيمة وحدها ، وكمن يطلب العلم الشرعي من أجل الشهادة والوظيفة ولا يريد بذلك كله وجه الله البتة ، فلم يخطر بباله احتساب الأجر عند الله تعالى ، وكمن يهاجر من أجل الزواج بامرأة في مهجره ، مثل مهاجر أم قيس الذي ورد فيه الحديث " فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
*************************
المحبط الثاني والعشرون: العُجب بالنفس:
والعُجب هو : الإحساس بالتميّز ، والافتخار بالنفس ، والفرح بأحوالها ، وبما يصدر عنها من أقوال وأفعال ، محمودة أو مذمومة . وعرَّفه ابن المبارك بعبارة موجزة فقال : (أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرك ).
إن المرء قد يعمل طاعة ، فيستعظمها في نفسه ، ويرى أنه قدّم شيئاً كبيراً يستحق أن يُشكر ويُثنى به عليه ، وربما يتطور الأمر فيزداد به الزهو والغرور حتى يُدلّ على الله بعمله . فكأنه هو صاحب الفضل ، وربما أنه ازدرى عباد الله وخاصة من يبدو منهم التقصير فيرى نفسه خيراً منهم . وهذا أُسُّ البلاء ومكمن الداء .
قال :" ثلاث مُنجيات وثلاث مُهلكات ، فأما المنجيات : فخشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الفقر والغنى ، والعدل في الغضب والرضا ، وأما المهلكات : فشحٌ مطاع ، وهوىً متَّبع ، وإعجابُ المرء بنفسه ، وهي أشدهن ". (رواه البيهقي وحسَّنه الألباني).
وعن أبي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رسول الله : " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".(رواه البخاري).
والواجب ألا يغتر الإنسان بعمله مهما عظم ، وألا يحتقر ويزدري غيره بحجة أنه صالح ، وذاك مُذنبٌ مُقصِّر ، فلربما غفر الله لذلك المذنب بانكساره بين يدي ربه وخوفه من ذنبه ، وعذَّب هذا المفتخر المغتر بعبادته وصلاحه ،
قال ابن القيم في ( مدارج السالكين ) : (ويحتمل أن يكون تعييرك لأخيك بذنبه أعظمَ إثماً من ذنبه وأشد من معصيته ؛ لما فيه من صولة الطاعة وتزكيةِ النفس وشكرِها ، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب وأن أخاك باء به ، ولعل كسرته بذنبه وما أُحدث له من الذلة والخضوع والإزراء على نفسه والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب الذي هو فيك وأنت لا تدري ، ووقوفَه بين يدي الله ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب أنفعُ له وخيرٌ من صولة طاعتك وتكثرِك بها والإعتدادِ بها والمنةِ على الله وخلقه بها ، فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله ، وما أقرب هذا المُدل من مقت الله ، فذنب تَذِل به لديه أحب إليه من طاعة تُدل بها عليه ، وإنك أن تبيت نائماً وتصبح نادماً خيرٌ من أن تبيت قائماً وتصبح معجباً فإن المعجب لا يصعد له عمل ، وإنك أن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل ، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المُدلِّين ، ولعل الله أسقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلاً هو فيك ولا تشعر ، فلله في أهل طاعته ومعصيته أسرار لا يعلمها إلا هو).
• دخل المُزني على الشافعي في مرض موته فقال : كيف أصبحت يا أبا عبد الله ؟ قال : أصبحت من الدنيا راحلاً ، وللإخوان مفارقاً ، ولسوء عملي ملاقياً ، وعلى الله واردا ، ولا أدري : أروحي تصير إلى الجنة فأهنّيها أم إلى النار فأعزّيها !! ثم أنشد :
إليك إلـه الخلـق أرفـــــع رغبتي *** وإن كنتُ يا ذا المن والجود مجرما
ولما قسـا قلبي وضـاقت مذاهبي *** جعلت الرجـا مني لعفوك سلمــــــا
تعاظمنـي ذنبـي فلمـا قرنتــــــــه *** بعفوك ربي كان عـفوك أعظمــــــا
فإن تعف عني تعف عـن متمـرد *** ظلوم غشـــــــوم لا يـزايـ
أحمدى العدوى- تقني متميز
- عدد المساهمات : 49
نقاط : 81
تاريخ التسجيل : 04/05/2009
رد: التذكير بمحبطات الأعمال
• دخل المُزني على الشافعي في مرض موته فقال : كيف أصبحت يا أبا عبد الله ؟ قال : أصبحت من الدنيا راحلاً ، وللإخوان مفارقاً ، ولسوء عملي ملاقياً ، وعلى الله واردا ، ولا أدري : أروحي تصير إلى الجنة فأهنّيها أم إلى النار فأعزّيها !! ثم أنشد :
إليك إلـه الخلـق أرفـــــع رغبتي *** وإن كنتُ يا ذا المن والجود مجرما
ولما قسـا قلبي وضـاقت مذاهبي *** جعلت الرجـا مني لعفوك سلمــــــا
تعاظمنـي ذنبـي فلمـا قرنتــــــــه *** بعفوك ربي كان عـفوك أعظمــــــا
فإن تعف عني تعف عـن متمـرد *** ظلوم غشـــــــوم لا يـزايـل مأثمـــا
فجرمي عظيم من قديم وحــادث *** وعفوك يأتي العبد أعلى وأجســمـــا
فما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل *** تـجـــــــــــود وتعـفو منَّة وتكرمـــا
• ودخل الإمام أحمد السوق مرة ومعه متاعه يحمله فلما رآه الناس هبُّوا إليه كل يريد أن يحمل متاعه عنه ، فلما رأى ذلك بكى واحمرّ وجهه وقال : " نحن قوم مساكين لولا ستر الله لافتضحنا !!".
علاج العجب:
1- تذكر دائما أن المنعم عليك بالعمل هو الله وحده : ( ولولا فضل الله ورحمته ما زكى منكم من أحد) .
2- اعلم أنك مهما بلغت من العبادة فلن تصل إلى مرتبة رسول الله الذي كان هو هو في العبادة والزهد والخوف من الله ومع ذلك كان يقول: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ" . قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ ".(رواه البخاري).
3- إن العبرة بالخاتمة لا بكثرة العمل . قال :" إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " (رواه الشيخان) .
4- ثم هل عندنا ضمان من الله بقبول أعمالنا ؟ قد يكدح المرء ويتعب ويظن أنه من الفائزين بالجنة فإذا بالعمل يرد عليه ولا يقبل منه !!. فعن عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ :}وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ{: أَهُمِ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ:" لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمِ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ". .(رواه الترمذي). نسأل الله لطفه وعافيته .
*************************
المحبط الثالث والعشرون: الإحداث في المدينة ، أو إيواء مُحدث فيها :
قال :المدينة حرمٌ ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثاًً أو آوى محدثاًً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاًً ولا عدلاًً ، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلماًً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاًً ولا عدلاًً ، ومن أدَّعي إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاًً ولا عدلاًً. (كنز العمال – ج12).
وعن علي عن النبي قال: " المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور ، من أحدث فيها حدثاًً أو آوى محدثاًً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف وقال : ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماًً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يُقبل منه صرفٌ ولا عدل ، ومن تولى قوماًً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاًً ولا عدلاًً ". (رواه أحمد – مسند علي بن أبي طالب).
وقد قيل في معنى الصرف: بأنه التوبة ، والعدل: الفدية ، وقيل: الصرف النافلة ، والعدل الفريضة ، وجماعها حرمانه من الخير. والله أعلم. (من فتوى للشيخ/ سليمان الماجد من موقعه). ومما قيل في معناه: إنه لا يقبل منه فريضة ولا نافلة ، والمقصود في النفي هنا هو النفي المطلق ، أي أن الله تعالى لا يقبل منه أي عمل ؛ لأن هذا حاله وهذا شأنه من الابتداع. (من شرح الحديث للشيخ/ سفر الحوالي من موقعه).
*************************
المحبط الرابع والعشرون: الانتساب لغير الأب تعمداً :
قال : " من ادَّعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً". (رواه مسلم).
وفي الصحيحين عن أَبي ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ ، وَمَنِ ادَّعى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". (متفق عليه).
، وعن أبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ قَالَ:"لا تَرْغَبُوا عَنْ آبائِكِمْ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبيهِ فَهُوَ كُفْرٌ". (متفق عليه).
، وعن سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ:"مَنِ ادَّعى إِلى غَيْرِ أَبيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرامٌ فَذُكِرَ َلأبي بَكْرَةَ فَقَالَ: وَأَنا سَمِعَتْهُ أُذُنايَ وَوَعاهُ قَلْبي مِنْ رَسُولِ اللهِ ". (متفق عليه).
وتحريم الانتساب إلى غير الأب أو إلى غير القوم في هذه الأحاديث محمول على العلم والقصد وتعمد ذلك أما إذا جهل الإنسان نسب أبيه وقومه واجتهد وبذل وسعه في معرفته ثم غلب على ظنه القول بنسب معين بقرائن وأمارات فلا يشمله النهي ولا يدخل في الوعيد ولو كان مخطئا وإن كان الورع تركه ولهذا كان من المقرر عند أهل العلم ثبوت النسب بالاستفاضة والشهرة ولو لم يحصل اليقين بذلك. وإذا قصد الإنسان بالانتساب إلى غير أبيه وقومه تحصيل دنيا أو جاه أو رئاسة كان التحريم أعظم وأشد وما تحصل عليه بسب ذلك سحت. ويلحق في هذا الحكم من نفى نسب أبيه وقومه بلا حق ولو لم ينتسب إلى غيرهم. وقد اعتنى الشارع بمسألة الأنساب وحفظها واحترامها لما يترتب عليه من الأحكام في كثير من أبواب الشرع كالنفقة والميراث والدية والزكاة والمحرمية في النكاح والقصاص والولاية في النكاح والمال وغير ذلك. فالواجب على المسلم أن يعتني بنسبه إلى أبيه وقومه ويضبطه ولا يتساهل في إنكاره أو تغييره لأجل دنيا أو الحصول على الجنسية أو مستحق مالي أو قطيعة وخصومة ومن كذب في نسبه فقد ارتكب إثما عظيما ووجب عليه التوبة والتبرؤ من ذلك وإثبات نسبه الصحيح. (خالد بن سعود البليهد – موقع صيد الفوائد).
والانتساب لغير الأب يحدث غالباً في أوساط الفنانين والمطربين ، فيغير الرجل اسمه أو تغير المرأة اسمها ليتناسب مع الفن مثل المطرب عبد الحليم شبانه الذي تسمى بعبد الحليم حافظ ، ومثل ياسمين الحصري التي تسمت بياسمين الخيام. ويحدث أيضاً في أوساط المترفين ، كنساء الزعماء والرؤساء ، مثل صفية زغلول ، وجيهان السادات ، وسوزان مبارك فكل منهن انتسبت إلى زوجها بدل أبيها .
ويدخل فيه - أيضاً - من ينتسبون إلى آل البيت بالباطل ، كالعبيدين الذين حكموا مصر في القرن الرابع الهجري وتسمَّوا بالفاطميين زوراً وبهتاناً ، وكالشيعة الرافضة في وإيران وغيرها ، وكمن يدَّعي أنه من الأشراف ويحاول جاهداً الحصول على شهادة أو صك بذلك طمعاً في دنيا فانية .
ويدخل فيه – أيضاً – من يلتقط لقيطاً ثم ينسبه لنفسه ، ويسميه باسمه وهو يعلم أنه ليس بأبيه ، وغالباً ما يحدث هذا ممن لا يُنجب وتكون عنده تركة لا يريدها أن تذهب لقرابته ، وكل ذلك محرم ، ملعون فاعله مهما كانت الدوافع .
وختاماً ، فهذا ما أمكن جمعه مختصراً – بعون الله وتوفيقه - في هذا الموضوع الخطير الذي ربما يغفل عنه الكثير من الناس أو يتهاونون فيه مما يُضيِّع أعمالهم الصالحة التي عملوها وكانت خالصة – لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وخالصاً – ومع ذلك فإنها تحبط ويضيع أجرها بمجرد ارتكاب محبط ربما يتهاون به المسلم أو يغفل عنه ،
وما أردت بهذه الرسالة إلا النصح لنفسي ولإخواني المسلمين للحرص على فعل الطاعات ، وترك المحرمات ، والابتعاد عن المبطلات والمحبطات ، والاستعانة على كل ذلك برب الأرض والسموات ، إنه سميع مجيب الدعوات ،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
جمعها ورتبها
أبو بكر العدوي
مدرس بالكلية التقنية بتبوك
في 10/10/1432هـ
إليك إلـه الخلـق أرفـــــع رغبتي *** وإن كنتُ يا ذا المن والجود مجرما
ولما قسـا قلبي وضـاقت مذاهبي *** جعلت الرجـا مني لعفوك سلمــــــا
تعاظمنـي ذنبـي فلمـا قرنتــــــــه *** بعفوك ربي كان عـفوك أعظمــــــا
فإن تعف عني تعف عـن متمـرد *** ظلوم غشـــــــوم لا يـزايـل مأثمـــا
فجرمي عظيم من قديم وحــادث *** وعفوك يأتي العبد أعلى وأجســمـــا
فما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل *** تـجـــــــــــود وتعـفو منَّة وتكرمـــا
• ودخل الإمام أحمد السوق مرة ومعه متاعه يحمله فلما رآه الناس هبُّوا إليه كل يريد أن يحمل متاعه عنه ، فلما رأى ذلك بكى واحمرّ وجهه وقال : " نحن قوم مساكين لولا ستر الله لافتضحنا !!".
علاج العجب:
1- تذكر دائما أن المنعم عليك بالعمل هو الله وحده : ( ولولا فضل الله ورحمته ما زكى منكم من أحد) .
2- اعلم أنك مهما بلغت من العبادة فلن تصل إلى مرتبة رسول الله الذي كان هو هو في العبادة والزهد والخوف من الله ومع ذلك كان يقول: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ" . قَالُوا وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ ".(رواه البخاري).
3- إن العبرة بالخاتمة لا بكثرة العمل . قال :" إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " (رواه الشيخان) .
4- ثم هل عندنا ضمان من الله بقبول أعمالنا ؟ قد يكدح المرء ويتعب ويظن أنه من الفائزين بالجنة فإذا بالعمل يرد عليه ولا يقبل منه !!. فعن عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ :}وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ{: أَهُمِ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ ؟ قَالَ:" لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمِ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ". .(رواه الترمذي). نسأل الله لطفه وعافيته .
*************************
المحبط الثالث والعشرون: الإحداث في المدينة ، أو إيواء مُحدث فيها :
قال :المدينة حرمٌ ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثاًً أو آوى محدثاًً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاًً ولا عدلاًً ، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلماًً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاًً ولا عدلاًً ، ومن أدَّعي إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاًً ولا عدلاًً. (كنز العمال – ج12).
وعن علي عن النبي قال: " المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور ، من أحدث فيها حدثاًً أو آوى محدثاًً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف وقال : ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلماًً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يُقبل منه صرفٌ ولا عدل ، ومن تولى قوماًً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاًً ولا عدلاًً ". (رواه أحمد – مسند علي بن أبي طالب).
وقد قيل في معنى الصرف: بأنه التوبة ، والعدل: الفدية ، وقيل: الصرف النافلة ، والعدل الفريضة ، وجماعها حرمانه من الخير. والله أعلم. (من فتوى للشيخ/ سليمان الماجد من موقعه). ومما قيل في معناه: إنه لا يقبل منه فريضة ولا نافلة ، والمقصود في النفي هنا هو النفي المطلق ، أي أن الله تعالى لا يقبل منه أي عمل ؛ لأن هذا حاله وهذا شأنه من الابتداع. (من شرح الحديث للشيخ/ سفر الحوالي من موقعه).
*************************
المحبط الرابع والعشرون: الانتساب لغير الأب تعمداً :
قال : " من ادَّعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً". (رواه مسلم).
وفي الصحيحين عن أَبي ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ ، وَمَنِ ادَّعى قَوْمًا لَيْسَ لَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". (متفق عليه).
، وعن أبي هريرة عَنِ النَّبِيِّ قَالَ:"لا تَرْغَبُوا عَنْ آبائِكِمْ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبيهِ فَهُوَ كُفْرٌ". (متفق عليه).
، وعن سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ:"مَنِ ادَّعى إِلى غَيْرِ أَبيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرامٌ فَذُكِرَ َلأبي بَكْرَةَ فَقَالَ: وَأَنا سَمِعَتْهُ أُذُنايَ وَوَعاهُ قَلْبي مِنْ رَسُولِ اللهِ ". (متفق عليه).
وتحريم الانتساب إلى غير الأب أو إلى غير القوم في هذه الأحاديث محمول على العلم والقصد وتعمد ذلك أما إذا جهل الإنسان نسب أبيه وقومه واجتهد وبذل وسعه في معرفته ثم غلب على ظنه القول بنسب معين بقرائن وأمارات فلا يشمله النهي ولا يدخل في الوعيد ولو كان مخطئا وإن كان الورع تركه ولهذا كان من المقرر عند أهل العلم ثبوت النسب بالاستفاضة والشهرة ولو لم يحصل اليقين بذلك. وإذا قصد الإنسان بالانتساب إلى غير أبيه وقومه تحصيل دنيا أو جاه أو رئاسة كان التحريم أعظم وأشد وما تحصل عليه بسب ذلك سحت. ويلحق في هذا الحكم من نفى نسب أبيه وقومه بلا حق ولو لم ينتسب إلى غيرهم. وقد اعتنى الشارع بمسألة الأنساب وحفظها واحترامها لما يترتب عليه من الأحكام في كثير من أبواب الشرع كالنفقة والميراث والدية والزكاة والمحرمية في النكاح والقصاص والولاية في النكاح والمال وغير ذلك. فالواجب على المسلم أن يعتني بنسبه إلى أبيه وقومه ويضبطه ولا يتساهل في إنكاره أو تغييره لأجل دنيا أو الحصول على الجنسية أو مستحق مالي أو قطيعة وخصومة ومن كذب في نسبه فقد ارتكب إثما عظيما ووجب عليه التوبة والتبرؤ من ذلك وإثبات نسبه الصحيح. (خالد بن سعود البليهد – موقع صيد الفوائد).
والانتساب لغير الأب يحدث غالباً في أوساط الفنانين والمطربين ، فيغير الرجل اسمه أو تغير المرأة اسمها ليتناسب مع الفن مثل المطرب عبد الحليم شبانه الذي تسمى بعبد الحليم حافظ ، ومثل ياسمين الحصري التي تسمت بياسمين الخيام. ويحدث أيضاً في أوساط المترفين ، كنساء الزعماء والرؤساء ، مثل صفية زغلول ، وجيهان السادات ، وسوزان مبارك فكل منهن انتسبت إلى زوجها بدل أبيها .
ويدخل فيه - أيضاً - من ينتسبون إلى آل البيت بالباطل ، كالعبيدين الذين حكموا مصر في القرن الرابع الهجري وتسمَّوا بالفاطميين زوراً وبهتاناً ، وكالشيعة الرافضة في وإيران وغيرها ، وكمن يدَّعي أنه من الأشراف ويحاول جاهداً الحصول على شهادة أو صك بذلك طمعاً في دنيا فانية .
ويدخل فيه – أيضاً – من يلتقط لقيطاً ثم ينسبه لنفسه ، ويسميه باسمه وهو يعلم أنه ليس بأبيه ، وغالباً ما يحدث هذا ممن لا يُنجب وتكون عنده تركة لا يريدها أن تذهب لقرابته ، وكل ذلك محرم ، ملعون فاعله مهما كانت الدوافع .
وختاماً ، فهذا ما أمكن جمعه مختصراً – بعون الله وتوفيقه - في هذا الموضوع الخطير الذي ربما يغفل عنه الكثير من الناس أو يتهاونون فيه مما يُضيِّع أعمالهم الصالحة التي عملوها وكانت خالصة – لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وخالصاً – ومع ذلك فإنها تحبط ويضيع أجرها بمجرد ارتكاب محبط ربما يتهاون به المسلم أو يغفل عنه ،
وما أردت بهذه الرسالة إلا النصح لنفسي ولإخواني المسلمين للحرص على فعل الطاعات ، وترك المحرمات ، والابتعاد عن المبطلات والمحبطات ، والاستعانة على كل ذلك برب الأرض والسموات ، إنه سميع مجيب الدعوات ،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
جمعها ورتبها
أبو بكر العدوي
مدرس بالكلية التقنية بتبوك
في 10/10/1432هـ
أحمدى العدوى- تقني متميز
- عدد المساهمات : 49
نقاط : 81
تاريخ التسجيل : 04/05/2009
رد: التذكير بمحبطات الأعمال
جزاك الله خيرا
م/علاء جوده- تقني فعال
- عدد المساهمات : 91
نقاط : 183
تاريخ التسجيل : 29/04/2009
العمر : 57
منتدى قسم التقنية المدنية والمعمارية بالكلية التقنية بتبوك :: المنتدى العام :: العقائد والأحكام والمعاملات
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى